Thursday, September 19, 2019

لباس المرأة بين الانضباط والتسيب – رؤية مقاصدية

استفرغ العلماء المتقدمون جهدهم في الحديث عن لباس المرأة من حيث مشروعيته و حكمه و مراميه ، ولايزال البعض من الذين يهرفون بما لايعرفون يدافعون بحجج واهية ، على أن اللباس بالنسبة للمرأة لايشكل إلا الجزء اليسير من التزامها ، وأن تمت  ضوابط غير اللباس لتقييم درجة تدينها ، على اعتبار أن التبرج يحمل مفهوما يتعدى الجانب الشكلي، وهي دعوة – وللأسف – خلقت اضطرابا في صفوف العديد من النساء ، خاصة ممن يتتبعن الرخص أينما حلت ، حتى أصبح العديد منهن لا يلتزمن إلا بالحد الأدنى من اللباس تحت مسمى الحجاب.

 

إن التحليل المقاصدي لمشروعية اللباس الشرعي بالنسبة للمرأة ، ليقدم الجواب الشافي  لكل مضطرب أو متسائل عن سر التقيد باللباس الشرعي بمواصفاته التي حددها النص القرآني ، وقيدها النص الحديثي.

 

فاللباس الشرعي للمرأة يندرج كما هو معلوم عند المقاصديين ضمن دائرة كلي النسل (العرض) متأرجحا بين مرتبتي الضروري والحاجي ، ولا شك أن أية مفسدة تلحقه هي ضياع للعرض بوجه من الوجوه ، وأن تحصينه إنما هو رعاية لهذا الكلي من جهة ، وإدراك لمصالح لا يمكن أن تعود على المرأة ، والأسرة والمجتمع تبعا إلا بالمنافع  ، فالمصير الوجودي للمجتمع الذي تعتبر المرأة جزءا منه ، يتحدد بحسب درجات تحجبها ، ولهذا لايليق بالفتاة المؤمنة أو المرأة عموما أن تتقمص دور المتحجبة بعيدة عن الأصول الشرعية للباس ، لما لذلك من انعكاسات على دينها الإسلامي أولا ، وما قد يجره ذلك النوع من اللباس عليها من متاعب ، قد تصل إلى درجة الاعتداء النفسي والبدني ، وكل ذلك يؤثر سلبا على الواقع الاجتماعي الذي ننتمي إليه، ولا أجد أنسب ما يمكن أن أستشهد به في هذا المقام ، من قول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى حينما نبه المرأة المسلمة بخطورة التظاهر بالتدين قائلا : ” وإن الفتاة المؤمنة هي التي لا تتحايل على ربها بلباسها ، فتظهر زينتها من حيث هي تزعم التدين والانتماء لأهل الصلاح ، بل الفتاة المؤمنة  هي التي تلبس جلبابها الشرعي ثوبا هادئا ساكنا ، خاشعا عن بدنها ، يسترها ولا يفضحها ويرفعها ولا يضعها ، ويكرمها ولا يمسخها ، ثم يقربها من ربها ولا يبعدها …وليس معنى ذلك أن تلبس أرذل الثياب حتى تبدو كالعجوز التي لا يناسبها ثوب البتة ، أو كما كان أهل المرقعات من جهال العباد أو الصعاليك ” – سيماء المرأة المسلمة في الإسلام – بين النفس والصورة : ص 15.

 

وقد حرص رحمه الله انتقاء ألفاظ غاية في الدقة ، حيث اختيار لفظة الجلباب وهو  لغة ما يطلق عند العرب على الثوب المشتمل على الجسد كله ، وقد جاءت كلمة جلباب مجموعة في القرآن الكريم في قوله تعالى:  ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِن….. ” الأحزاب:59.

 

قال ابن عطية: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين بإدناء الجلابيب ليقع تسترهن.

 

وقول الأنصاري رحمه الله ”  ثوبا هادئا ساكنا ، خاشعا عن بدنها   ” ، إشارة منه رحمه الله تحقيق الشروط المستوفية لدفع الكشف عن بدنها ، محققة بذلك الستر بدل جلب الفضيحة عنها ، وتحقيقا

 

 لكرامتها  ، كل ذلك يقربها من الله عزوجل ، وهي رؤية مقاصدية من عالم يشهد له الجميع ببعد النظر الأصولي والمقاصدي ، حيث أخرج اللباس الشرعي من مجرد قطع ثوبية تستر بها المرأة بدنها ، إلى وسيلة تعبدية تحقق المرأة المسلمة العفيفة من خلالها نجاتها من الهلاك وتحصيلها منزلة الصالحات ، تفرض على الناظرين الإجلال والتقدير والتوقير.

 

وقد تساءلت ذات مرة عن سر تقديم المرأة عن الرجل  في تحديد عقوبة الزنا ” ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٲحِدٍ۬ مِّنۡہُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٍ۬‌ۖ  ” سورة النور الآية 2 ، بخلاف تقديم الرجل عنها في تحديد عقوبة السرقة ” وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” سورة المائدة:38 ، على اعتبار أن  التقديم والتأخير في القرآن الكريم يدعو إلى الوقوف والتأمل والتمحيص ، وهو وجه من أوجه الإعجاز القرآني ، فوجدت في الأمر تنبيه قوي إلى لفت انتباهنا إلى خطورة الدور الذي تلعبه المرأة من خلال إظهار مفاتنا ومحاسنها للإثارة وجلب الأنظار ، وهو سلوك لا يبرر انجراف الرجل وراء تلك الإغراءات ، على اعتبار أن فاحشة الزنا إنما تحدث ابتداء من منطلق جملة أسباب ، وعلى رأسها إبداء المرأة من خلال مظهرها  مايدعو بأن تكون سببا في تشجيع المؤهلين بارتكاب معصية الزنا .

 

ومن هنا تكمن خطورة المظهر في شيوع الفاحشة داخل المجتمع ، فالتبرج لم يكن في يوم من الأيام خارجا عن حدود المظهر ، وإنما هو دعوة كان الهدف من ورائها ولايزال  إفقاد المرأة كرامتها ، والسعي من خلالها إلى محاربة الدين الإسلامي ، ومالحرب التي شنتها فرنسا على الحجاب عنا ببعيد.

 

  فالتبرج إذا أردنا تداوله من الناحية اللغوية حددناه في مدلول الظهور والبروز والارتفاع، ولذا تستعمل كلمة “برج” لكل شيء ظاهر مرتفع، ومن هنا يقال للبرج برج لارتفاعه وظهوره، ويقال للسفينة الشراعية بارجة لبروز شراعها من بعيد، وكلمة التبرج إذا استعملت للمرأة كان لها ثلاث معان:

 

– أن تبدي للأجانب جمال وجهها ومفاتن جسدها.

 

– أن تبدي لهم محاسن ملابسها وحُليِّها.

 

– أن تبدي لهم نفسها بمشيتها وتمايلها وترفلها وتبخترها.

 

 ومنقول عن الشيخ أبو الأعلى المودودي أن  التبرج أعم من السفور، فالسفور خاص بكشف الغطاء عن الوجه، والتبرج: كشف المرأة وإظهارها شيئًا من بدنها أو زينتها المكتسبة أمام الرجال الأجانب عليها.

 

فأنى لنا بعد هذا التوضيح أن نخنع وراء نظريات ذات أصولي غربية ، أصبح الغرب منها يتبرؤون جراء ما ترتب عنها من انهيار اجتماعي .

 

وخلاصة القول أن المرأة  المسلمة في البلاد العربية ، وما وصلت إليه من دركات الانحطاط الخلقي ، مطالبة اليوم بأن تعيد الاعتبار لنفسها من خلال تمثلها لصورة الحجاب الشرعي، التي تعود إلى عبارتين محوريتين : ” إدناء الجلباب ” والثانية ” ضرب الخمار على الجيوب ” ، فكل ما يحقق الشرطين من الألبسة اندرج تحت مفهوم اللباس الشرعي عند المرأة ،  ولعل الكلام يطول لاستقراء الآيات القرآنية وما يلحقها من تفسير ، واستحضار ما يرتبط بها من أحاديث نبوية ، لكن قصدي أن ألفت النظر إلى خطورة الاستخفاف بهذا الأمر الشرعي – كما هو واقع الحال – الذي يحفظ للمرأة كرامتها من جهة ، ويحافظ من جهة إقامته على كلي النسل ، فالنكوص عن الزواج إنما هو إحدى تبعات تخلي المرأة عن كينونتها ، وكشفها المستور ، الذي لم يعد للرجل رغبة في الاطلاع عليه بعد الزواج، وهي ظاهرة تقتضي  مراجعة عدة مفاهيم للتبرج وللحجاب الشرعي ، حتى يتحقق الانضباط لشرع الله ، بعيدا عن كل تسيب أو لي لأعناق المفاهيم .

 

 إن الحجاب الشرعي يربط بين الأساس العقدي من زاوية الانتماء العقدي ، وبين الأساس التعبدي رعيا لجمالية الحياء في المرأة الأنثوية ، وبين الأساس الحضاري حيث يعبر عن المكانة التي أولاها الإسلام للمرأة بصورة غاية في التقدير تختزل قيمة المرأة داخل التركيبة الاجتماعية ،بعيدة عن الاستغلال البدني  كما يروج لها خارج دائرةالدين الإسلامي .

 

The post لباس المرأة بين الانضباط والتسيب – رؤية مقاصدية appeared first on منار الإسلام.



from منار الإسلام https://ift.tt/306HfD0
via IFTTT

No comments:

Post a Comment