بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيد الأولين و الآخرين سيدنا محمد و على اله و صحبه أجمعين.
شرع الله تعالى الزواج لمقاصد سامية و عظيمة لتكثير سواد الأمة و استمرار الحياة و حفظ المجتمع من الفاحشة و غيرها من الحكم الربانية، و قد اعتبر الإسلام عقد الزواج ميـثاقا غليظا و رابطة متينة و مشروعا جديا يمتد للآخرة، يقول عز من قائل: ” و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تاخذوا منه شيئا أتاخذونه بهتانا و إثما مبينا ، و كيف تاخذونه و قد افضى بعضكم إلى بعض و أخذن منكم ميثاقا غليظا ” (1).
قال القاسمي: أي عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد ، يعسر معه نقضه، كالثوب الغليظ يعسر شقه.
و قد كان تعدد الزوجات موجودا عند العرب قبل الإسلام مثلما كان موجودا عند معظم الشعوب القديمة و البدائية لأسباب أغلبها اقتصادية، و كان للرجل قبل الإسلام كما يقول الطبري نقلا عن الضحاك – أنه كان للرجل أن يتزوج عشرا- (2)
و بعد مجيء الإسلام ، أباح في أحكامه تعدد الزوجات و لم يوجبه، بل أبقى عليه مباحا مع إدخال الإصلاحات الجذرية التي تجعله يتماشى مع ما شرعه الله من أحكام للعلاقة الزوجية، بل للنظام الأسري الكامل، و أدخل الإسلام هذه الإصلاحات قصد الحد من مساوئ التعدد و مضارها التي كانت موجودة قبل الإسلام، حيث كان بدون عدد، و كانت كرامة النساء مهدرة و حقوقهن مسلوبة (3)
فما هي إذن شروط التعدد؟
و ما هي الأحكام التي تعتريه؟
و هل التعدد هو الأصل أم الواحدة هي الأصل؟
شروط تعدد الزوجات:
أجمع علماء المسلمون على جواز التعدد ، و لكن بأربعة شروط:
1-العدد: يجب ألا يجمع المسلم في عصمته أكثر من أربع نسوة في وقت واحد، و مستند هذا الكتاب و السنة و إجماع الأمة، لقوله تعالى:” فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع”(4)
2-العدل: انطلاقا من قوله تعالى:” فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة”، و قد جاء في الحديث النبوي الشريف،” من كانت له امرأتان ، و لم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة و شقه مائل(5)
و المقصود هنا العدل في المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المبيت و المعاملة، أما العدل في الميل القلبي فلا يملكه الإنسان لقوله تعالى:” و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة”(6)، و لقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال :” اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك” (7)، لأنه كان صلى الله عليه و سلم يحب أمنا عائشة رضي الله عنها أكثر من باقي نسائه اللاتي كن في عصمته، أما أمنا خديجة رضي الله عنها فمكانتها لا مثيل لها حيث أنه صلى الله علي و سلم لم يتزوج عليها طيلة حياته معها، لمدة خمسة و عشرون سنة، حتى توفاها الله، و بعد ذلك جاء أمر الله تعالى و تزوج باقي نسائه بوحي و أمر من الله تعالى لغاية أرادها سبحانه.
3-القدرة البدنية لأداء حق كل امرأة و القدرة على الإنفاق على الزوجتين أو أكثر، و تشمل النفقة و الطعام و الشراب و الكسوة و المسكن و ما يلزم من أثاث يناسب المرأة حسب العرف و الزمان و المكان و الأشخاص، فان لم يكن الراغب في التعدد مستطيعا للنفقة فلا يجوز له الإقدام عليه، لأن النفقة على الزوج واجبة بالإجماع المستند إلى كتاب الله .(8)، لقوله تعالى :”الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم” (9) ، و انطلاقا أيضا من قوله تعالى:” و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله” (10).
4-أن لا يكون الجمع بين من يحرم الجمع بينهن: مثل الجمع بين الأخوات لقوله تعالى:” و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف انه كان فاحشة و مقتا و ساء سبيلا، و أن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف” (11)، ويحرم الجمع بين المرأة و عمتها ، و المرأة و خالتها و هذا بإجماع أهل العلم .
أحكام تعدد الزوجات:
للتعدد خمسة أحكام مختلفة باختلاف النية و الظروف الاجتماعية و النفسية والسياسية و غيرها…، فتارة يكون واجبا ، و في أخرى يكون مندوبا ، و قد يكون مباحا و قد يكون مكروها و قد يكون منهيا عنه أو محرما.
يكون التعدد واجبا في حالة خشية الزوج على نفسه من الوقوع في الزنا: لعجز زوجته على إشباع شهوته لظروف صحية أو لعيب جنسي مثلا.
يكون التعدد مندوبا إذا كان لا يخاف على نفسه الفاحشة و لكن يريد الإنجاب و تكثير سواد الأمة مثلا: خصوصا إذا كانت زوجته لا تنجب.
و يكون بين الكراهة و التحريم إذا كان الزواج بقصد التنويع و التلذذ و التذوق الانغماس في الشهوات ، و يكون هذا الأمر غالبا عند مرضى القلوب و ضعاف الإيمان، أو إذا كان المعدد يفتقد للقدرتين البدنية و المالية ، أو كان لا ينوي إقامة العدل بين زوجاته.
و ما دون الواجب و المندوب و المكروه و المحرم فحكمه الإباحة.
هل التعدد أصل أو رخصة:
اختلف أهل العلم، هل الأصل في الزواج التعدد أم الواحدة، فهناك من يرى أن الأصل في الزواج هو الإفراد، و يسوغ للشخص عند الحاجة ووجود المبرر و أمن العدل أن يتزوج أكثر من واحدة.
فقد جاء في المستقنع للحجاوي الحنبلي، و يسن نكاح واحدة.
و قال الشيخ ابن عثيمن في الشرح الممتع على زاد المستقنع:” ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يسن أن يقتصر على واحدة، و علل ذلك بأنه أسلم للذمة من الجور ، لأنه إذا تزوج اثنتين أو أكثر فقد لا يستطيع العدل بينهما، و لأنها أقرب إلى منع تشتت الأسرة ، فانه إذا كان له أكثر من امرأة تشتتت الأسرة…و الاقتصار على الواحدة أسلم، و لكن مع ذلك إذا كان الإنسان يرى من نفسه أن الواحدة لا تكفيه و لا تعفه، فإننا نأمره بان يتزوج … حتى يحصل له الطمأنينة، و غض البصر وراحة النفس (12)
كما أن الإسلام أعطى للمرأة الحق أن تشترط في العقد أن لا يتزوج عليها زوجها ثانية، فيلزم حينئذ الوفاء بالشرط، و إلا فلها الحق أن تطلب الطلاق.
و يقول الشيخ ابن محمود:” إننا لا نشك و لا ننكر أن الاقتناع بزوجة واحدة متى حصل المقصود منها ، أنها أفضل من التعدد لأن الله سبحانه حين أباح تعدد الزوجات لم يبحه بطريق التوسع فيه عل حسب التشهي و التنقل في الملذات و تنوع المشتهيات، و إنما أباحه بشرط العدل بين الزوجات” (13)
و يقول أيضا ، كما جاء في كتاب العدل في التعدد :” ثم إن بعض هؤلاء متى استجد أحدهم نكاح امرأة، ووقعت في نفسه موقع الحظوة و الرغبة، أقبل عليها بكليته ووحدها باتصاله و صلته، و قطع صلته بالأولى و قطع نفقته عليها و على عياله منها، حتى يدعها معلقة لا هي ذات زوج و لا مطلقة ، فيتضاعف عليها الضرر من كل الحالات ، لعجز الزوج عن القيام بكفاءة المرأتين لا في البيت و لا في المبيت و لا في النفقة. و إن هذا يستحق أن لا يسمح له بالتعدد لعجزه عن القيام بواجبه، و لإخلاله بشرطه. (14)
و قال العلامة ابن العربي في بحث له: ” فإذا قدر الرجل من ماله و من بنيته على نكاح أربع فليفعل. وإذا لم يحتمل ماله و لا بنيته في الباءة ذلك فليقتصر على ما يقدر عليه. و معلوم أن كل من كانت عنده واحدة أنه إن نالها فحسن و إن قعد عنها هان ذلك عليها، بخلاف أن تكون عنده أخرى، فانه إذا أمسك عنها اعتقدت أنه يتوافر للأخرى، فيقع النزاع و تذهب الألفة (15)
وأما أصحاب الرأي الثاني فأكدوا أن الأصل هو التعدد متى تحقق شروطه ، وأن الإفراد لا يكون إلا لمن خشي ألا يعدل بين زوجاته، لقوله عز و جل،” و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم ذلك ادني ألا تعولوا” (16)
و قال ابن قدامة في المغني:” و لأن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج و بالغ في العدد، و فعل ذلك أصحابه ، و لا يشتغل النبي صلى الله عليه و سلم إلا بالأفضل. ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل، و الاشتغال بالأدنى” (17)
وقال ابن قدامة رحمه الله أيضا:” و ليس للرجل أن يجمع بين امرأتين في مسكن واحد بغير رضاهما صغيرا كان أو كبيرا لأن عليهما ضررا، لما بينهما من العداوة و الغيرة ، و اجتماعهما يثير المخاصمة و المقاتلة ، و تسمع كل واحدة منهما حسه إذا أتى إلى الأخرى، أو ترك ذلك، فان رضيا بذلك جاز لأن الحق لهما فلهما المسامحة بتركه” (18)
خلاصة القول أن التعدد مباح و جائز شرعا، وهو ضرورة و حبل نجاة لحل مشاكل خاصة، لكنه مقيد بشروط صعبة للغاية خصوصا في زمان الفتنة والفساد الذي عم جميع القطاعات و الميادين ، حيث أصبحت الباءة و الاستطاعة المادية ضعيفة مع كثرة البطالة و الفقرو الظلم، فالعديد من الشباب لا يستطيعون الزواج حتى بواحدة مع رغبتهم الشديدة، و يلجئون لطرق غير شرعية لتلبية رغباتهم و شهواتهم، مقابل صمت و لامبالاة العديد من الجهات المسئولة للأسف.
و أختم مقالي بقول الأستاذ عبد السلام ياسين:” إن تعدد الزوجات في شريعة الإسلام حل استثنائي لحالات استثنائية، ما هو أصل و قاعدة. فان استغل بعض الرجال هذه التوسعة الشرعية ليشبعوا أنفسهم لذة و يشبعوا النساء ظلما فالحيف منهم لا من الشريعة. التعدد حل لما يمكن أن يلقاه الرجل، أو يعانيه المجتمع من مشاكل، الرجل تقوى فيه الحاجة فلا تكفيه امرأة واحدة، و تمرض و هو صحيح، أو تعقم و هو يطلب الولد. و المجتمع يربو فيه عدد النساء على عدد الرجال ، فتجيء شريعة التعدد لتصون حصة منهن عن العنوسة و الشارع. تكون شريعة التعدد هي الحل الوحيد إن حصدت الحرب الرجال كما حدث في الحربين العالميتين في قرن العجائب و العنف. (19)
فالله نسأل أن يوجه همتنا لطلب ما عنده و التعلق به وحده و السعي لنيل رضاه، حتى لا ننسى الغاية التي خلقنا من أجلها وهي العبادة التي تحتاج لاستفراغ القلب من كل المشوشات و الاستخلاف في الأرض بإقامة العدل و دفع الجور عن المرأة و الرجل معا.
المراجع:
(1) سورة النساء آية: 20-21
(2) موسوعة تاريخ العرب لعبد عون الروضان.
(3) حقوق المرأة في الإسلام د محمد عرفة ص: 94
(4) سورة النساء، آية: 3
(5) رواه أبو داود و النسائي.
(6) سورة النساء آية:129
(7) رواه أبو داود في سننه.
(8) كتاب العدل في التعدد للدكتور عبد الله الطيار بتصرف .
(9) النساء آية: 34
(10) سورة النور آية: 33
(11) سورة النساء 22-23
(12) الشرح الممتع 10/119.
(13)كتاب حكم إباحة تعدد الزوجات للشيخ ابن محمود ص: 25
(14) حكم إباحة تعدد الزوجات للشيخ ابن محمود، ص: 30
(15) أحكام القران لأبي بكر بن العربي ج 1 ص: 313
(16) النساء، آية: 3
(17) المغني ج 6 ص: 447.
(18) المغني ج 7 ص: 26
(19) تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام ياسين،ص: 189
الكتب و البحوث المعتمدة:
-سنن الترمذي للإمام الترمذي.
– تنوير المومنات للأستاذ عبد السلام ياسين.
– تعدد الزوجات: دراسة فقهية مقاصدية للأستاذة : نصيرة منصور.
-العدل في التعدد للدكتور عبد الله الطيار.
-المغني لابن قدامة رحمه الله .
-أحكام القران لأبي بكر بن العربي.
-حقوق المرأة في الإسلام للأستاذ محمد عرفة.
The post تعدد الزوجات بين الرخصة و العزيمة appeared first on منار الإسلام.
from منار الإسلام https://ift.tt/2l2qzt1
via IFTTT
No comments:
Post a Comment