Monday, May 27, 2019

أسرار الاعتكاف

العناوين

  • الانتظام في كلية الاعتكاف
  • تعريف الاعتكاف
  • ما يتميّز به الاعتكافُ في شهر رمضان
  • فائدة الاعتكاف
  • هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف
  • مقاصد الاعتكاف 
  • حكم وآداب الاعتكاف
  • أهداف الاعتكاف
  • الجوانب التربوية للاعتكاف
  • ثمرات الاعتكاف
  • أحوال السلف الصالح في العشر الاواخر من رمضان

الانتظام في كلية الاعتكاف

يعتبر شهر رمضان معلم مهم في تربية النفس، ففيه تزكو النفوس وتنقاد إلى ربها، وتطهر القلوب لتنجمع على الله، كما يعتبراعتكاف العشر الأواخر من رمضان وإحياء لياليها أهم ما يلم الله به شعث القلوب واستقامتها على الطريق تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهُما، قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يَعتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
– وعنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّه عنْها، أَنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزواجُهُ مِنْ بعْدِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
– وعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: كانَ النبيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشَرةَ أيَّامٍ، فَلَمًا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبًضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشرِينَ يَوْمًا. رواه البخاريُّ.

ويقول الإمام ابن القيّم في زاد المعاد في هدية صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف “لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى! لهذا كان مقصود الاعتكاف الأعظم يتمثل في: عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخطراته”.

تعريف الاعتكاف

الاعتكاف هو لزوم المسجد بنية مخصوصة، لطاعة الله تعالى، والعكوف: اللبث والإقامة، عكف في المكان إذا أقام به، ومعنى الاعتكاف هو اللبث في المسجد بنية التعبد والتقرب إلى الله من ليل أو نهار، وليس له حد محدود، وهو مشروع في كل وقت وفي رمضان آكد، وفي العشر الأخيرة آكد، ومشروع في جميع الأوقات، ولا حد لأقله ولا حد لأكثره، والهدف منه التفرغ للعبادة من القراءة -قراءة القرآن- والذكر والصلاة والدعاء، هذا هو المقصود أن يتفرغ لعبادة الله جل وعلا، وهو مشروع مستحب باتفاق أهل العلم، قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود:(لا أعلم عن أحد من العلماء إلاقال أنه مسنون).
وقال الزهري رحمه الله: (عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل).

ما يتميّز به الاعتكافُ في شهر رمضان

اولاً: اقترانه بالصّوم الواجب، وهو صوم الفريضة، وبالتالي يكون المعتكف أكثر قدرةً بإذن الله على تحقيق أهدافه من الاعتكاف، المتعلقة بتحقيق العبودية.

ثانياً: فضّل اللّه تعالى رمضان، والعشر الأواخر منه خاصّةً بليلة القدر: -أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن- يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام، قال تعالى {فيها يفرق كل أمر حكيم }-فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالى كبيروعظيم -تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة -فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) – متفق عليه

ثالثاً: اقتران الاعتكاف في رمضان بالقرآن الكريم.

رابعاً: اقترانُ الاعتكاف بقيام الليل وصلاة التراويح.

خامساً: مضاعفة ثواب الأعمال الصّالحة في رمضان!

فائدة الاعتكاف

إن في العبادات من الأسرار والحكم الشيء الكثير، ذلك أن المدار في الأعمال على القلب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ( 52 ). 
وأكثر ما يفسد القلب الملهيات، والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل من شهوات المطاعم، والمشارب، والمناكح، وفضول الكلام، وفضول النوم، وغير ذلك من الصوارف التي تفرق أمر القلب، وتفسد انجماعه على طاعة الله، فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غائلة تلك الصوارف، كالصيام مثلاً، الصيام الذي يمنع الإنسان من الطعام والشراب، والجماع في النهار، فينعكس ذلك الامتناع عن فضول هذه الملذات على القلب، فيقوى في سيره إلى الله، وينعتق من أغلال الشهوات التي تصرف المرء عن الآخرة إلى الدنيا. 
وكما أن الصيام درع للقلب يقيه مغبة الصوارف الشهوانية، من فضول الطعام والشراب والنكاح، كذلك الاعتكاف، ينطوي على سر عظيم، وهو حماية العبد من آثار الاشتغال بغير الله، والتوجه الكلي لله عز وجل والإقبال على الله تعالى بالقيام وقراءة القرآن والذكر والدعاء ونحو ذلك. 
وفيه كذلك حماية من كثرة النوم، فإن العبد إنما اعتكف في المسجد ليتفرغ للتقرب إلى الله، بأنواع من العبادات، ولا ريب أن نجاح العبد في التخلص من كثرة الكلام والنوم يسهم في دفع القلب نحو الإقبال على الله تعالى وحمايته من ضد ذلك.

هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف

هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف كان أكمل هدي، وأيسره، فكان إذا أراد أن يعتكف وُضع له سريره وفراشه في مسجده صلى الله عليه وسلم، وبالتحديد وراء أسطوانة التوبة كما جاء في الحديث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة ) رواه ابن ماجه 1/564. 
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب له خباء مثل هيئة الخيمة، فيمكث فيه غير أوقات الصلاة حتى تتم الخلوة له بصورة واقعية، وكان ذلك في المسجد، ومن المتوقع أن يضرب ذلك الخباء على فراشه أو سريره وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح، ثم يدخله الحديث) رواه البخاري 4/810 فتح الباري. 
وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، من بول أو غائط، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها حين قالت: (.. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً ) رواه البخاري 4/ 808 فتح الباري
وكان صلى الله عليه وسلم يؤتي إليه بطعامه وشرابه إلى معتكفه كما أورد ذلك سالم بقوله: ( أما طعامه وشرابه فكان يؤتى به إليه في معتكفه ). 
وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته، إذْ كان يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجّل له شعر رأسه، ففي الحديث عن عروة عنها رضي الله عنها ( أنها كانت ترجّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها، يناولها رأسه ) رواه البخاري 4/807 فتح الباري 
قال ابن حجر: ( وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل، والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد ) 4/807 فتح الباري. 
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، وذلك من أجل التركيز والتوجه الكامل لله عز وجل والانقطاع الكلي لمناجاته عز وجل، ففي الحديث عن عائشة أنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ بالمريض وهو معتكف، فيمرّ كما هو ولا يُعرِّج يسأل عنه ). 

مقاصد الاعتكاف 

وللاعتكاف مقاصد نذكر منها

– تحري ليلة القدر. 
– الخلوة بالله عز وجل، والانقطاع عن الناس ما أمكن حتى يتم أنسه بالله عز وجل وذكره. 
– إصلاح القلب، ولم شعثه بإقباله على الله تبارك وتعالى بكليته. 
– الانقطاع التام إلى العبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن. 
– حفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات. 
– التقلل من المباح من الأمور الدنيوية، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها.

حكم وآداب الاعتكاف

الاعتكاف سنة مؤكدة داوم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقضى بعض ما فاته منها، ويقول في ذلك (عزام): ” والمسنون ما تطوع به المسلم تقرباً إلى الله، وطلباً لثوابه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أنه فعله وداوم عليه)

وللاعتكاف آداب يستحب للمعتكف أن يأخذ بها حتى يكون اعتكافه مقبولاً وكلما حافظ عليها المعتكف كان له الأجر الجزيل من رب العالمين وكلما أخل بهذه الآداب نقص أجره.

ومن الآداب ما ذكره ابن قدامة في هذا المعنى:

  • يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وبذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة ويجتنب مالا يعينه من الأقوال والفعال ولا يُكثر الكلام لأن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشي من ذلك ولا بأس بالكلام لحاجة ومحادثة غيره روى الشيخان أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ( على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي )، فقالا: سبحان الله يا رسول الله ! وكبُرَ عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم) وفي لفظ:(يجري من الإنسان مجرى الدم(وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً) وفي لفظ:(شراً).

أهداف الاعتكاف

وللاعتكاف أهداف تيسر الانجماع على الله وانسجام الباطن والظاهر والتي تتمثل في:

  • استدراك كل نقص، وتعويض كل تقصير يحصل للمرء في علاقته بالله ـ تعالى.
  • زيادة الصلة الإيمانية بالله، وفتح المزيد من الأبواب التعبدية التي تزكي النفس.
  • الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بالتحصيل والتعليم عن كثير من التطبيق والعمل.
  • الاعتكاف موسم عظيم للدعاة والمربين؛ أولاً: لسد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم بالخلق. وثانياً: لاستغلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي عند المدعوين والمتربين.
  • وهو فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله ـ تعالى.
  • الاعتكاف فرصة للخلوة الفكرية التي يستطيع بها الداعية أن يحكم على مساره ويقيم إنجازاته.
  • وهو فرصة عظيمة لتجاوز إشكالية شديدة الحساسية وهي مشكلة قولبة المتربي في حدود إطار المربَّى.

الجوانب التربوية للاعتكاف

(1) تحقيق العبودية لله عز وجل:

  • يؤصل الاعتكاف في نفس المعتكف مفهوم العبودية الحقة لله عز وجل، ويدربه على هذا الأمر العظيم الذي من أجله خلق الإنسان، إذ يقول الحق تبارك وتعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات/56
  • بهذه الدُّرْبة في مثل أيام العشر الأخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على تحقيق مفهوم العبودية لله عز وجل في حياته العامة والخاصة.

(2) تحري لليلة القدر:

  • وهو المقصد الرئيسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم إذ بدأ اعتكافه أول مرة الشهر كله وكذلك اعتكف العشر الأواسط تحرياً لهذه الليلة المباركة، فلما علم أنها تكون في العشرة الأخيرة من شهر رمضان اقتصر اعتكافه على هذه العشر المباركة.

(3) المرابطة في المسجد

  • تتمثل أهمية الاعتكاف للمعتكف في الأمور التالية:

– أن الرجل الذي يمكث في المسجد يكون قد أحب المسجد من قلبه، وهذا له قيمة كبيرة عند الله.

– أن الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة له أجر صلاة، وأن الملائكة تستغفر له، ففي الحديث الذي أورده أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في مصلاه ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) البخاري 2/360 فتح الباري.

(4) البعد عن الترف المادي والزهد فيه.

– أما طعامه فهو مختلف في وضعه، إن لم يكن في نوعه، إن كان طعامه يأتيه من منزله، فهو عادة لا يأتيه بالكثرة ولا يتناوله بالوضع الذي كان يتناوله في منزله، بل يأكل كما يأكل الغريب، ويأكل كما يأكل العبد الفقير إلى ربه، وبهذا يعرف أن الحياة يمكن إدارتها بالقليل الذي يرضى عنه الله.

(5) الإقلاع عن كثير من العادات الضارة

(6) يتعرف الإنسان المسلم في فترة الاعتكاف وقد خلا إلى خالقه على مفهوم العبادة

(7) هذه الطاعات المستمرة لله عز وجل تحتاج إلى صبر مستمر من قِبَل المعتكف، وفي هذا تربية للإرادة، وكبْح لجماح النفس التي عادةً ما ترغب في التفلّت من هذه الطاعة إلى أمور أخرى تهواها.

(8) الاطمئنان النفسي

(9) قراءة القرآن وختمه

(10) التوبة النصوح

(11) قيام الليل والتعود عليه

(12) عمارة الوقت

(13) تزكية النفس

(14) صلاح القلب وجمعه على الله عز وجل.

ثمرات الاعتكاف:

والاعتكاف فرصة لتثبيت معاني التعلق بالله والانتقال من زمن الغفلة والعادة إلى زمن العبادة والإقبال على الله ومن ثمراته:

–         1 تربية النفس على الإخلاص لله تعالى وهجر الرياء.

–         2 تعويد النفس على المحاسبة والمراقبة، فهو بالاعتكاف يحاسب نفسه على ما فرطت ويعيد مراجعة أعماله في عامه المنصرم، ويذكرها بالله تعالى، ويجدد العزم على المتاب.

–         3 تربية النفس على الذكر والقرآن والتسبيح والتهليل، لكي يجعل لنفسه وردا منها فيما بعد.

–         4 تعويد النفس على ترك القواطع والشواغل عن الله، من الدنيا والرفاق والأعمال وغير ذلك، حتى تتربى وتتعود على مفارقتها.

–         5 ترك كثير من العادات السيئة كالسهر على القنوات والتوسع في المأكل والمشرب.

–         6 تعويد النفس على الصبر وتحمل الطاعات.

–         7 التدريب على اغتنام الوقت واستثماره وعلى تنظيم الحياة.

–         8 الخروج من ضوضاء الدنيا واسترخاء الجسم والنفس لتعود أنشط لدينها ودنياها.

أحوال السلف الصالح في العشر الاواخر من رمضان

ولقدِ اهتمَّ السَّلف بهذه العشْر، وهذه الليالي أيّما اهتِمام حتى نشد المؤذنون على المنارات وقت السحر.

يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا  رُبَّ صَوْتٍ لا يُرَدُّ 

لا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلاَّ  مَنْ  لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ 

قد مضى الليل وولى  وحبيبي قد تجلى

ومن فرْط حبِّهم لهذه اللَّيالي المباركة: أنَّهم كانوا يستحبُّون أن يغتسِلوا كلَّ ليلةٍ من لياليها -كما كان يفعل النخعي -وكان أيُّوب السختياني يغتسِل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبَس ثوبَين جديدين، ويتطيَّب.

ورُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -أنَّه إذا كان ليلة أرْبع وعشرين، اغتسل وتطيَّب، ولبس حلَّة: إزار ورداء، فإذا أصبح طواهُما فلم يلبَسْهما إلى مثلِها من قابل.

وكان ثابتٌ البناني وحميدٌ الطَّويل يلبَسان أحسنَ ثيابِهما، ويتطيَّبان ويطيِّبان المسجد بالنَّضوح في اللَّيلة التي تُرْجَى فيها ليْلة القدر.

وقال ثابتٌ: وكان لتميم الدَّاريِّ حُلَّة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

ولَم يكونوا يقتصِرون في إحياء العشر على أنفسهم، بل كانوا يوقظون نساءهم وأبناءهم، تأسِّيًا برسول الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم -قال ابن رجب: “ولم يكُن النبيُّ -صلَّى الله عليْه وسلَّم -إذا بقي من رمضان عشَرة أيَّام، يدَع أحدًا من أهلِه يُطيق القيام إلاَّ أقامه“.

وكان عمر بن الخطَّاب في سائر الأيَّام، فقد كان يصلِّي من اللَّيل ما شاء الله، حتَّى إذا كان نصف اللَّيل، أيْقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم: الصَّلاةَ الصَّلاة، ويتلو:﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾[طه: 132. 

وهذا ابن عبَّاس -رضِي الله عنْه -قال: “بتُّ عند خالتِي ميْمونة ليلة، فقام النَّبيُّ -صلَّى الله عليْه وسلَّم -فلمَّا كان في بعْض اللَّيل، قام الرَّسول -صلَّى الله عليْه وسلَّم -فتوضَّأ من شنٍّ معلَّقة وضوءًا خفيفًا ثمَّ قام يصلِّي، فقُمت فتوضَّأت نحوًا ممَّا توضَّأ، ثمَّ جئتُ فقُمت عن يسارِه، فحوَّلني فجعلنِي عن يَمينه، ثمَّ صلَّى ما شاء الله“.

قال إبراهيم بن وكيع: “كان أبي يصلِّي، فلا يبقى في دارِنا أحدٌ إلاَّ صلَّى، حتَّى جارية لنا سوداء”.

كان طلحة بن مصرف يأمُر نساءَه وخدمه وبناتِه بقيام الليل، ويقول: “صلُّوا ولو ركعَتَين في جوْف اللَّيل، فإنَّ الصَّلاة في جوْف اللَّيل تحطُّ الأوْزار، وهي من أشْرف أعمال الصَّالحين”.

قال إبراهيم بن شماس: “كنتُ أعرِف أحمد بن حنْبل وهو غُلام يُحيي اللّيلَ 

وكان ابنُ عُمَر يقرأ هذه الآية:﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾[الزمر: 9 وقال: “ذاك عثمان بن عفان -رضي الله عنه”.

وقال ابنُ أبي حاتم: “وإنَّما قال ابنُ عمر ذلك؛ لكثرة صلاةِ أمير المؤمنين عُثمان باللَّيل وقراءته، حتَّى إنَّه ربَّما قرأ القُرآن في ركعة”.

وكانوا يهتمُّون مع الصَّلاة بالقُرآن الكريم؛ فقد نقَلَ الذَّهبي عن الأسودِ بن زيْد: “أنَّه كان يَختم القرآن في رمضان في كلِّ ليلتَين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يَختم القُرآن في غير رمضان في كلِّ ستِّ ليال”.

وكان قتادة -رحِمه الله -يَختم القُرآن في كلِّ سبع ليالٍ مرَّة، فإذا دخل رمضان ختمَ في كلِّ ثلاث ليال مرَّة، فإذا دخل العشْر ختم في كلِّ ليلة مرَّة.

وقال الشافعي رحمه الله:

تَزَوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّكَ لا تَدْرِي  إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الفَجْرِ 

فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ  وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ 

وَكَمْ مِنْ صَبِيٍّ يُرْتَجَى طُولُ عُمْرِهِ  وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لا يَدْرِي 

نريد أن نتأمل هذه الأحوال، وأن نرى بعض تلك المفارقات العجيبة، فنقول: إذا ذهب من رمضان عشرون يوماً يكون قد مضى الثلثان وبقي الثلث، والثلث كثير، وفيه خير وفير، وحسبنا من عشره الأخير أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي تنزل فيها الملائكة بكل أمر، والتي فيها السلام والخير حتى مطلع الفجر.

أليس هذا جديراً وحرياً بأن يكون لنا معه شأن آخر كما كان شأن أسلافنا، وكما هو شأن كل مؤمن حي القلب يقظ الفكر حريص على الخير مقبل على الطاعة عالم بما ينبغي لكل حال وزمان بما يناسبه ويلائمه.

The post أسرار الاعتكاف appeared first on منار الإسلام.



from منار الإسلام http://bit.ly/2KflXKr
via IFTTT

No comments:

Post a Comment