Thursday, May 30, 2019

تحرير السياسة التعليمية مدخل لتحرير الأمة

 التعليم عامل أساس في البناء الحضاري والتغيير الاجتماعي، وهو مؤشر مركزي على تقدم الأمم وتأخرها. فلا نتصور قيام أمة أو نجاحا لأي مشروع تغييري دون أن يكون المنطلق من التربية والتعليم. لأن الاستثمار في مجال التعليم هو استثمار في الحاضر وإثمار  في المستقبل.

  وقد اهتمت الأمة بهذا المجال الحيوي في عهدها الزاهر حضاريا ، وانتبهت إليه بعض الدول الصغيرة حديثا فصارت عملاقة اقتصاديا وتنمويا رغم قزميتها الجغرافية والسكانية وفي مقدمتها سنغفورة .

أهمية التربية والتعليم في القرآن الكريم:

  إن القرآن الكريم باعتباره شامل لشؤون الحياة الانسانية[1]، لم يكن ليغفل قضية التعليم، فقد أولاها اهتماما بالغا، حيث وردت فيه نصوص كثيرة تحض على التعليم والتعلم، حتى باتت المسألة فرضا على كل مسلم ومسلمة. بل إن القرآن الكريم جعل التعليم منطلق تشييد البناء الراسخ للأمة الاسلامية. ويتجلى ذلك في كون أول ما نزل منه قوله تعالى ” اقرأ باسم ربك الذي خلق” (سورة العلم الآية 1 ) آية شاهدة على الاعتناء والحرص الشديد للقرآن على التعلم. ثم نزلت بعدها آيات أخرى تؤكد على هذه الأهمية بل وتبين الطرق والأساليب المعتمدة في ذلك. ونذكر من الآيات مثالا لا حصرا:

  • قوله تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏”[2]
  • قال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ”[3]
  • قال تعالى: “وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً”[4]
  • قوله تعالى: “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”[5]
  • قال عز وجل:”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ”[6]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تدعو إلى تعليم وتعلم كل “علم نافع يرفع من قدر الإنسان وينمي عقله ويجعله أكثر خبرة بالحياة واطلاعا على أحوالها”[7] لتحقيق الاستخلاف فيها.

أهمية التعليم في السنة النبوية:

    تكمن أهمية التعليم في الهدي النبوي الشريف كونه عليه الصلاة والسلام بعث معلما ومربيا، فكانت أعظم وظيفة حباه الله تعالى بها هي أن جعله معلما للمسلمين وللناس كافة، قال سبحانه عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2.

 وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً”. رواه مسلم 1478

وهذه بعض الأحاديث النبوية التي حث في المعلم الكريم صلى الله عليه وسلم على التعليم والتعلم وفضلهما:

  • عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ))[8].
  • عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرُ الله، وما والاه، وعالمٌ أو متعلمٌ))[9].
  • عن أبي هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له))[10].
  • عن حذيفة بن اليمانِ – رضي الله عنهما – قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة، وخير دِينكم الوَرَع))[11].
  • عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقْنُوهم))، قلت للحكم: ما اقْنُوهم؟ قال: علِّموهم[12].
  • عن محمد بن جُبَير بن مُطعِم، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيفِ مِن منًى فقال: ((نضَّر اللهُ امرأً سمع منا حديثًا فحفِظه حتى يُبلِّغَه غيره؛ فرُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيهٍ))[13].

 

أهمية التربية والتعليم في التراث الإسلامي:

 أوفى علماء الإسلام خلال عصور ازدهار حضارتهم، قضية التربية والتعليم حقها. فقد خلفوا في ذلك تراثا هائلا ما يزال في حاجة إلى كشف الغطاء عنه من خلال الدراسات والتمحيص والجمع. وما كان ذلك الازدهار الحضاري الإسلامي إلا دلالة على متانة النظم التعليمية التربوية المتبعة آنذاك.

فمعظم العلماء من فقهاء ومحدثين وغيرهم من المتخصصين  في مجالات أخرى، أفردوا كتبا وأبوابا وضعوا فيها أسس وقواعد أساسية لسيرورة العملية التعليمية التعلمية.

يأتي هذا الاهتمام بقضية التربية والتعليم عند علماء المسلمين في فترة مبكرة من تاريخ الأمة، وللتمثيل على ذلك يمكن الإشارة إلى بعض هؤلاء الأعلام مع تواريخ وفياتهم، وكتبهم التي تناولت قضية التربية والتعليم بالدرس والتحليل والتنظير :

  • ابن مسكويه المتوفى سنة 241ه له كتابه “تهذيب الأخلاق” الذي حث فيه على التعليم المستمر.
  • ابن سحنون المتوفى سنة 256ه وأهم مؤلف في فكره التربوي كتاب “آداب المعلمين” وضع فيه منهجا قويما للعملية التربوية.
  • القابسي توفي سنة 324ه وقد أفرد المسألة بكتاب “الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين” الذي نادى فيه بإلزامية التعليم ووجوبه للجميع، مع البنين عن البنات في العملية التعليمية.
  • ابن سينا المتوفى سنة 370ه، من أهم آرائه التربوية التي نجدها في كتابه “السياسة” أن الانسان هو محور العملية التربوية وبالتالي لا بد في الممارسة التعليمية أن نتبين ماهية هذا الانسان وخصائصه، وإلا باءت العملية بالإخفاق.
  • ابن جماعة توفي سنة 373ه نظر للعملية التربوية من خلال كتابه “تذكرة السامع والمتكلم بآذاب العالم والمتعلم” من كل جوابها.
  • أبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505ه يمكن أن نستخلص آراءه التربوية التي يمكن أن نقول عنها مثلت نظاما تربويا متكاملا، من خلال كتبه ” إحياء علوم الدين” و “رسالة الأخلاق” و “أيها الولد”.
  • رائد التربية وعلم الاجتماع عبد الرحمان بن خلدون المتوفى سنة 809ه الذي أبرز في “مقدمته” منهجه التربوي في تعليم الناشئة، وآداب وشروط المعلم والمتعلم.

 

نماذج معاصرة:

سنغافورة :

   هذا مثال واقعي يتبين من خلاله ما للتعليم من أهمية في النهضة والتقدم. فبعد استقلال سنغافورة بأعوام معدودة، أصبحت اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، بنسبة لا تزيد عن 2٪ من معدل البطالة، ونسبة 60 ألف دولار أمريكي كناتج محلي إجمالي للفرد الواحد. فما هو السر الخفي في قصة هذا النجاح الاقتصادي، خاصة إذا ما علمنا أن سنغافورة بلد فقير من ناحية موارده الطبيعة ومحدود المساحة جغرافيا؟

     يمكن أن نجيب عن السؤال بما أشار إليه لي كوان يو[14] غير ما مرة، بأن استراتيجيته هي تنمية مورد البلاد الطبيعي الوحيد المتمثل في الشعب. فكانت الخطوة الأولى والرئيسة، تصميم نظام التربية والتعليم على أسس متينة، حيث تم  تطوير وتحسين المناهج التعليمية، ورفع أجور المعلمين، وبناء المدارس وغير ذلك من السياسات والمبادرات للارتقاء بالعملية التعليمية، جعلت سنغافورة تمتلك نظاما تعليميا عالميا، فهي الآن صاحبة جامعتين محليتين هما  من أفضل 75 جامعة في العالم، كما تتصدر حسب تصنيف [15]OECD قائمة البلدان ذات أفضل المدارس وأعلى مستوى في التحصيل العلمي.  

ماليزيا:

بعد أن كان بلدا زراعيا فقيرا جل اعتماده تصدير القصدير والمطاط إلى الدولة الصناعية المتقدمة، أصبحت ماليزيا اليوم، بفضل نهضتها التنموية في المجال التعليمي، واحدة من أقوى الدول في العالم من حيث النمو الاقتصادي. فقد استطاع مهاتير[16] من خلال تركيزه على التعليم بجميع مراحله (ما قبل المدرسة، الابتدائي، الثانوي) عن طريق مناهج تعليمية واضحة المعالم والأهداف، تحقيق نقلة علمية واقتصادية حقيقية لبلاده. حيث تم إنشاء نسبة كبيرة من المدارس التي تدرس التكنلوجيا لاستيعاب التقنيات المتطورة. فعلى سبيل المثال: في سنة 1996م رسمت خطة تنموية هدفها إدخال الكمبيوتر وشبكة الأنترنيت إلى كل المدارس، فكانت نتائج المشروع في سنة 1999م ربط المدارس الماليزية بشبكة الأنترنيت بنسبة 90%.

الواقع المتردي للتعليم بالعالم العربي الاسلامي:

قصور التعليم وضعفه عد عاملا أساسا في تخلف المجتمعات الاسلامية علميا وتقنيا…، الأمر الذي جعله عاجزا عن مواجه متطلبات الواقع الاسلامي اقتصاديا وعلميا واجتماعيا، وفقط تكفي نظرة سريعة على الأرقام الصادرة عن المؤسسات التي ترصد واقع التعليم بالعالم، لنعرف الشرخ المهول الذي سببه واقع التعليم في جسم الأمة. على سبيل المثال جاء في تقرير الأمم المتحدة حول الأمية والمستوى التعليمي العربي، أن 27 في المائة من إجمالي سكان المجتمع العربي أميين، كما أكد التقرير ذاته أن 6,5 مليون طفل عربي غير ملتحقين بالمدارس.

تعليم في أحضان الأمة:

  إذا ما قمنا بنظرة فاحصة لتاريخ الأمة الإسلامية قبل سقوطها السياسي والاقتصادي المدوي، وجدنا أن قضية التعليم ما كانت يوما شأنا من شؤون الدولة ولا عاكسا لنظرة السلطة وتوجهاتها، بل كانت المسألة من شأن العلماء والمربين. أما الأمراء في القرون الوسطى وما تلاها فقد اقتصر دورهم – وهو واجبهم  المباشر – على تشييد المدارس وتخصيص الأوقاف لها.  أما في القرون الأولى لم تكن هناك مؤسسات تعليمية رسمية، بل كان المسجد هو مركز إشعاع التعليم، داخله تلقى المحاضرات وتقرأ الكتب وتكتسب المعرفة. وحتى إذا ما بحثنا في طرق وأساليب ومناهج التدريس عند المسلمين قديما، لا نقف في ذلك على برامج ومناهج جاءت تبعا لسياسة الدولة العامة، وإنما يتجلى ذلك في نظريات تربوية اشتغل عليها العلماء مراعين في ذلك متغيرات الواقع ومستجداته.  فأنتجت لنا تلك النظريات أعظم العلماء في التاريخ الإنساني في مجالات عدة ، ازدهرت على أيديهم الحضارة الإسلامية وسادت، واستفادت من علومهم الحضارة الغربية اليوم.

ولما أصبحت  العلاقة عندنا بين النظام التعليمي والسياسي علاقة مؤدلجة بحيث سار التعليم أداة وظيفية في يد السلطة السياسة تبث فيه إديولجيتها وتدعم به توجهاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، من خلال المقررات الدراسية، تذيلنا سلم الترتيب الدولي في جودة التعليم.

وبالتالي لا ننتظر قفزة نوعية في قطاع التربية والتعليم نتقدم بها في ترتيب الدول، ما لم يتحرر التعليم من هيمنة الدولة واحتكارها له، وجعله في كنف علماء الأمة يرعونه في مؤسسات خاصة، ينظرون فيها للعملية التربوية التعليمية، بما يتماشى ومتطلبات الواقع الإسلامي والعربي الفكري والسلوكي والعلمي ضمن تغيير جذري للمشروع المجتمعي السائد .

[1]  قال تعلى في سورة الأنعام الآية 38:” مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ “

[2]  ‏المجادلة‏:‏ 11‏

[3]  الزمر: 9

[4]  طه: 114

[5]  التوبة: 122

[6]  الجمعة: 2

[7]  التربية في الاسلام، محمد أسعد أطلس، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة القاهرة، طبعة 2014م،  ص 39

[8]  رواه ابن ماجه (224)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 8 – 9)

[9]  رواه الترمذي (2322) وقال: حسن غريب

[10]  رواه مسلم، باب ما يلحق الإنسانَ مِن الثواب بعد وفاته (1631)

[11]  ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (وقال: رواه الطبراني في الأوسط (3960)، والبزار بإسناد حسن (2969

[12]  رواه ابن ماجه (247)، وحسنه الألباني، الصحيحة (280)

[13]  رواه الترمذي رقم (2795

 من مواليد 1923 وفي سنة 2015 وهو أول رئيس وزراء جمهورية سنغافورة [14]

منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية، تأسست سنة 1961 [15]

[16]  مهاتير بن محمد وأصلها بالعربية محاضر بن محمد، ولد سنة 1925م، رئيس وزراء ماليزيا الحالي، وسبق أن تولى رئاسة الوزراء فكان رابع رئيس وزراء لماليزيا في الفترة من 1981 إلى 2003

The post تحرير السياسة التعليمية مدخل لتحرير الأمة appeared first on منار الإسلام.



from منار الإسلام http://bit.ly/2YUXbTH
via IFTTT

No comments:

Post a Comment