مقـدمـة
موضوع المشاركة السياسية “الإسلامية” أحد المواضيع التي لا تزال تحضى براهنيتها بالرغم من تطاول الزمان منذ بداية الخوض فيها، أي منذ النصف الأول من القرن العشرين، الذي عرف تشكل الدول القطرية الخارجة من ربقة الاستعمار حديثا، في تزامن مع نشوء حركات إصلاحية بمرجعية إسلامية.
غير أن البحث النظري في هذا الموضوع، لا يساير سرعة التغيرات في الواقع السياسي، ولا يعكس اختلاف الظروف والوقائع، إلى درجة لا يمكن معها تلمس السياقات التاريخية ضمن الاجتهاد السياسي أو الفتوى المتعلقة بمشاركة من المشاركات. وهكذا قد تلفي بحثا ينظر للمشاركة في السلطتين التشريعية أو التنفيذية في نظام ما بعد الربيع العربي، لا يختلف في مستنداته ودفوعاته ومنهجه عما يرد في بحوث تنتمي للمرحلة الخديوية أو ما بعد الناصرية في مصر مثلا.
لا أبتغي في هذا المقام، استئناف النظر في مسألة المشاركة السياسية استدلالا وتكييفا، وانتصارا للمؤيدين أو الرافضين، بل أروم استجلاء النفس العام الذي يحكم أكثر تلك الاشتغلات النظرية حول هذه المسألة، لنتبين مدى حظها من المسلك الاجتهادي القويم، ومدى قوتها وتماسكها في رصد الوقائع السياسية وتحليلها واستصدار الأحكام بشأنها. إنها محاولة لنقد منهج الاجتهاد المعاصر في هذا الصدد، وليس لنتائجه ومخرجاته.
ولا يتأتى الغرض المقصود، أي تقويم البحث في المشاركة السياسية، إلا بالنظر إلى هذا الأنموذج الخاص ضمن فضائه المعرفي الناظم، أقصد الاجتهاد في المجال السياسي عموما، والاجتهاد الفقهي بصفة أعم. فهل للاجتهاد السياسي طبيعة خاصة وخصوصيات تلزم مراعاتها؟ وما هي الحقول المعرفية المعاصرة التي لا مناص من الغوص فيها لتحقيق مناطات الأحكام السياسية؟ وقبل ذلك، هل الصيغة الاجتهادية التجريدية – كما يعكسها التنظير الأصولى للاجتهاد – توفر ضمانات الجودة النظرية، وتعصم الناظر من الخطل والتيه، في ظل تشعب دروب المعارف وتطوراتھا، وفي ظل تعقیدات الواقع؟
تلكم ثلاث محطات متعاقبة، بدءا من العام (الاجتهاد المعاصر)، مرورا بالخاص (الاجتهاد السياسي المعاصر) وصولا إلى الأخص (الاجتهاد في المشاركة السياسية)، أحاول الوقوف عندها بنظر نقدي، يجلي بعض مكامن العطب المنهجي، ويسهم في تسديد المسيرة الاجتهادية.
أولا. نظرات في الاجتهاد المعاصر: ضرورة التحرير الأصولي
إن علم أصول الفقه يلبي الحاجة المنهجية التي يتطلبها الاشتغال الفقهي، فالعلاقة الوطيدة بين العلمين تجعل مباحث الأصول تتطور وتنحو إلى التدقيق والتحرير، تبعا لحركية الفقه والأسئلة المنهجية التي يطرحها، وأدوات الاشتغال التي ينتظر من الأصول توفيرها. لكن يبدو أن أصول الفقه قد توقف عند لحظة تاريخية لم يتجاوزها، بسبب الركود الحضاري وإقصاء الفقه عن تأطير الحياة العامة بعد استعمار الأقطار الإسلامية، ورغم أن الحيوية والنشاط قد عادا في المرحلة الأخيرة إلى الفقه، وأصبح يعالج مختلف الإشكالات والقضايا المعاصرة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا؛ إلا أن الأصول لم تعرف نفس الحيوية والتجديد، نظرا لطبيعتها النظرية التجريدية، بخلاف الفقه ذي الطبيعة العملية المرتبطة بواقع الناس وحاجاتهم الفردية والجماعية.
تلك المفارقة بين علمي الأصول والفقه، تركت بالغ الأثر في الاجتهاد المعاصر، حيث أقدر أن كثيرا من الاجتهادات القلقة مبعثها تخلف القواعد الأصولية عن حمل البناءات الفقهية. إن الجهد النظري الذي بذله علماء الأصول قديما، في تحرير القواعد المساعدة على تحليل الخطاب الشرعي واستثماره، لم يقابله جهد مواز من الأصوليين المعاصرين في تحرير القواعد الضابطة للاجتهاد الاستدلالي والمصلحي؛ علما أن أكثر حاجة المتقدمين كانت الاستنباط من النصوص الشرعية، فأوفوا بهذا المطلب على المستوى الأصولي، وأن أكثر حاجة المعاصرين هي إدراك المصالح المرسلة وتحقيق مناطات الأحكام، غير أن هممهم قد قصرت عن تحرير القواعد الضابطة لذلك، أو قُل عن إكمال ما بدأه السابقون من جهود في هذا الشأن.
يقتضي الأمر مراجعة جديدة لأصول الفقه، لتحرير مباحثه وتدقيقها بما يفي بحاجات الفقه وأسئلته المعاصرة، وأكتفي في هذا الحيز بإشارات إلى بعض وجوه التحرير المطلوبة في مباحث الاجتهاد. وليس المقصود بالتحرير هنا نظير ما قام به السابقون من ضبط التعريفات والحدود لتكون جامعة مانعة، ولكن ضبط مصاديقها وتجلياتها في الممارسة الأصولية. إن تعريف الاجتهاد مثلا، حسب عبارة الآمدي هو: “استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه”[1]، لا يحتاج هذا التعريف إلى تدقيق العبارة، فذلك جهد سُبقنا إليه، ولكنه يحتاج إلى تصديق عملي جديد، وإلى تعبير عن حقيقته حسب ما استجد لدينا من معارف ومناهج، وبذلك يبقى الاجتهاد الفقهي ثابتا، في حين تتغير صور التعبير عنه وأشكال تحقيقه.
حول طبيعة الاجتهاد المعاصر
إن الاجتهاد هو اقتدار على ربط علاقة ثلاثية الأبعاد بين أقطاب ثلاثة: الأولى علاقة بين النص الشرعي والعقل الدارس، وذلك هو مستوى الاستنباط، حيث تُستدعى القواعد الأصولية لإجراء الدراسة اللغوية على النص لاستخراج الحكم الشرعي منه؛ والثانية علاقة بين العقل والواقع، وهي القدرة على فهم الواقع ومعرفة ثوابته ومتغيراته، ويتضمن ذلك مستوى الرصد للظواهر التي يفرزها الاجتماع البشري وتحليلها وتفسيرها، ويمكن أن نصطلح على ذلك باجتهاد التكييف؛ أما الثالثة فعلاقة بين الواقع والنص، وذلك هو مستوى التنزيل للأحكام على الوقائع والمستجدات، ويحتاج الأمر هنا إلى فهم مقاصدي دقيق، ونظر إلى المآلات، ولعل مفهوم تحقيق المناط يعبّر عن حقيقة هذا النوع من الاجتهاد. “يتبين مبدئياً أن فهم الدين لا يمكن أن يتم بصفة تجريدية مفصولة عن خضم الواقع الحياتي، بل يتم من خلال حوار متفاعل بين عناصر ثلاثة: النص الديني والعقل المدرك ونوازل الواقع وأحداثه”[2].
ويظهر أن الجهد الأكبر الذي يقع على عاتق متفقهي العصر، ينصرف إلى نوعي الاجتهاد الأخيرين، حيث تعرف الحوادث البشرية تسارعا، والنوازل غموضا وتعقيدا. وهنا تصبح مختلف الحقول المعرفية، ومناهج العلوم التي تسهم في الكشف عن الواقع وتحليل معطياته، من مشمولات الاجتهاد الفقهي ومن متطلباته، بشرط أن ينضبط الاشتغال النظري لمعيارية المعرفة الإسلامية، فلا يصادم النص الشرعي ولا يخرج عن دائرة معانيه ومقاصده.
إذا كان الفقه مبنيا على غلبة الظن، فإن العلوم والمعارف بمختلف أنواعها تصبح بهذا الاعتبار، مفاتيح يستعملها الفقيه للكشف عن حقائق وتفاصيل القضايا التي يشتغل عليها، قال شهاب الدين القرافي “وكم يخفى على الفقيه والحاكم الحق في المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العالية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم…”[3].
يرتبط الفقه برباط وثيق مع الكثير من العلوم والمعارف العقلية، ذلك بأن مجال اشتغال الفقه هو العمل البشري، وهذا العمل واسع الأرجاء يشمل المجالات العبادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية… ولا يكون الفقه متيناً مسدّداً إلا إذا نشأ عن تقدير صحيح وتصور جلي عن المجال الذي يشتغل فيه، فإذا كان مجال اشتغال الفقيه هو القضايا الأسرية، فإن ذلك يقتضي رصداً دقيقاً للعلاقات الاجتماعية ووعيا بطبيعتها ونتائجها، وإذا كان المجال هو المعاملات المالية والاقتصادية، فذلك يضطر الفقيه إلى معرفة صور التعاملات التجارية وطبيعة العقود وأساليب الاستثمار والتمويل والتوزيع، وقس على ذلك مختلف مجالات الاشتغال الفقهي.[4]
لا يهم في العمل الاجتهادي أن يتحدد تصنيف مجال المدارسة، هل هو فقه إسلامي أم فكر إسلامي أم علم اجتماع…؟ لأن ذلك لا يعدو أن يكون مسألة تنظيمية للمعرفة ليس إلا، المهم هو سلامة المنهج العلمي المفضي إلى إدراك الحقائق وبلوغ النتائج المرجوة. والمسألة تؤول في النهاية إلى النظم التربوية ومناهجها، التي ينبغي لها أن تمد الجسور بين العلوم والمعارف، وتحقق التكامل المعرفي بينها، إذ لا يعقل أن تتوزع التخصصات المعرفية بين كليات ومعاهد للعلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية… ثم ننتظر من طالب العلوم الشرعية -على ما هي عليه الآن- أن يكون مجتهدا في كل ذلك، وأعلم بواقع الحال أفضل من كل أولئك المتخصصين، كما لا ننتظر منهم اجتهادا منضبطا وقد أبعدوا قسرا عن المعيارية الإسلامية في المعرفة.
عندئذ، لا يغدو الاجتهاد الفقهي مجرد استصدار لحكم شرعي عملي، على شاكلة الفتاوى الفورية، صحيح أن إدراك الحكم هو الغاية النهائية المقصودة، ولكنه سيصبح أمرا متحصلا بعد جهود من الدراسة والتحليل والرصد والتفسير لمعطيات الظاهرة أو الواقعة الفقهية.
وليس غريبا أن نجد بعض الأطروحات الفكرية التي يدلي بها مفكرو الغرب والمشتغلون بالفلسفة السياسية خصوصا، أقرب إلى حقيقة الاجتهاد الإسلامي من بعض الفتاوى العجلى الصادرة عن فقهاء مسلمين في الشأن السياسي؛ لأن مدار الصواب ليس على اعتقاد الباحث، بل على امتلاكه للمعطيات الدقيقة، واقتداره المنهجي في الإفادة من الفكر السياسي والعلوم السياسية في تحليل تلك المعطيات وتفسيرها، فمن كان أقرب إلى تصور حقيقة الأمر، كان أقدر على الحكم عليه.
ولم تكن فكرة التكامل بين العلوم غائبة عن الأوائل، بل يمكن عدها إحدى المسلمات في الفكر التربوي وفلسفة العلوم الإسلامية، وإن كانت تتخلف أحيانا في مجال التطبيق. قال اليوسي في هذا الشأن: “وليعلم أن العلوم داخل بعضها في بعض وليس أحد يكمل في شيء على ما ينبغي وهو جاهل بالبواقي ولا سيما العلوم الشرعية وهي المقصودة”[5]، وقال المرعشي: “ويغلط بعض الطلبة في ترتيب الفنون والقدر اللائق من السعي لكل فن، فيشرع في بعض الفنون قبل تحصيل ما يتوقف فهمه عليه، وقد لا يهتم لفهم فن تشتدّ الحاجة إليه، ويُطيل البحث فيما لا يكثر الاحتياج إليه، وأمثال هذه الترتيبات الردية مدار تنزلهم وعدم وصولهم إلى مقاصدهم”[6]، وهو ما قاله الغزالي قبل ذلك: “من وظيفة طالب العلوم أن لا يدع شيئا من العلوم المحمودة إلا ينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده، فإن العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط ببعض، ثم يشرع في طلب التبحر في الأهم فالأهم”[7]. بقي أن يحسن الأصول ذلك الربط بين العلوم، لتصبح العملية الاجتهادية محاطة بضمانات الجودة والعلمية.
حول استفراغ الوسع
إن التعريف الأصولي للاجتهاد ينطلق من ملاحظة الجهد النظري الذي يبذله الفقيه في إدراك الحكم، ذلك الجهد الذي يعبر عنه بـ”استفراغ الوسع”، بقي قيمة كيفية غير خاضعة لأي تقدير كمي. فما ضابط الوسع؟ هل يقاس بالاستناد إلى المجتهد (الفرد أو الجماعة) أم بالاستناد إلى موضوع الاجتهاد؟ وما حد الكفاية لتحصيل الوسع في الاجتهاد عموما، وفي المجال السياسي أو في غيره من مجالات الاجتهاد خصوصا؟
إذا نظرنا إلى الاجتهاد من زاوية العناصر الثلاثة المتفاعلة أثناء ذلك الجهد العقلي (النص والعقل والواقع)، لأدركنا أن “استفراغ الوسع” ينبغي أن يكون ثلاثي الأبعاد أيضا، استنباطا وتكييفا وتنزيلا. وهنا ينبغي التمييز بين معيارين في الحكم على الجهد النظري الذي يبذله المجتهد، الأول معيار ذاتي، “(بِحَيْثُ يُحَسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَزِيدِ فِيهِ) لِيَخْرُجَ عَنْهُ اجْتِهَادُ الْمُقَصِّرِ فِي اجْتِهَادِهِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اجْتِهَادًا مُعْتَبَرًا”[8]. والثاني، معيار موضوعي ينبغي أن يكون موحدا ومصطلحا عليه بين الأصوليين، ليستقيم تقويمهم للاجتهادات. فالأول أقرب إلى الشرط الأخلاقي الذي ينبغي أن يتحلى به المجتهد، ولكن لا سبيل إلى التأكد من حصوله؛ أما الثاني فلا ينضبط ولا يكون مفيدا إلا إذا جردناه عن ذات المجتهد، وربطناه بموضوع الاجتهاد، بحيث يحدد أصول الفقه المقدار اللازم إدراكه من كل مجال معرفي يرتبط بموضوع الاجتهاد، والمناهج والأدوات التي لا غنى له عنها كي يقبل اجتهاده.
إن نظير ذلك التحديد المطلوب وجدناه متحققا في مباحث الأصول، فيما يرتبط بالأقدار اللازمة لتحقيق الوسع في الاستنباط، إذ نجد الغزالي في المستصفى يحصي القدر المطلوب من آيات وأحاديث الأحكام، والآمدي وغيره يقدر حد الكفاية من العلوم المعينة على الاستنباط، يقول: “أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَارِفًا بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَقْسَامِهَا، وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا… وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالرُّوَاةِ وَطُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، لَا كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي النُّصُوصِ الْإِحْكَامِيَّةِ، عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ، وَفِي النَّحْوِ كَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يَعْرِفُ بِهِ أَوْضَاعَ الْعَرَبِ وَالْجَارِي مِنْ عَادَاتِهِمْ فِي الْمُخَاطَبَاتِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ بَيْنَ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ”[9].
فلا غنى للأصول اليوم عن مباحث جديدة تفصل القول في العدتين المعرفية والمنهجية، اللتين يحتاجهما المجتهد ليباشر أي موضوع من مواضيع البحث، بحيث تكون معايير ثابتة تعرف بالسبيل القويم للاجتهاد، وتقوَّم الأعمال العلمية في ضوئها.
من جهة أخرى، فإن بعض المواضيع قد تخرج عن طاقة المجتهد الفذ، مما يتطلب النظر في “استفراغ الوسع الجماعي” وليس الفردي، وهذه منطقة أخرى من مناطق الفراغ التي ينبغي للفكر الأصولي أن يملأها، من خلال تدقيق شروط الاجتهاد الجماعي وآلياته وتقويمه. إذ يلاحظ أن ثمة خلطا بين الاجتهادات الفردية التي تخضع لنوع من التحكيم والاجتهاد الجماعي؛ فالأخير لا يمكن الحديث عنه إلا إذا كان جهدا منسقا ومتكاملا من بداياته إلى نتائجه، للتغلب على صعوبات بحثية يعجز عنها المجتهد المفرد.
إن إحدى العقبات المنهجية التي يتوجب على الفكر الأصولي أن يقتحمها، هي أن ينزع إلى تحويل المعطيات الكيفية إلى قيم كمية قابلة للقياس، وهو ما يسمى بعملية “التكميم” التي نجد بوادرها في الإنتاجات الأصولية القديمة، لكنها تخلفت عن مواصلة الطريق، في حين أن علوما أخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس والعلوم التربوية، عرفت تطورا مشهودا لاعتمادها على قوانين ثابتة وصيغ قياسية بل ونماذج رياضية.
ثانيا. الاجتهاد السياسي المعاصر، خصوصياته واختلالاته
لا مراء في أن الفقه السياسي جزء من الفقه الإسلامي، على اعتبار أن السياسة تنظم السلوك الفردي والجماعي المرتبط بشؤون الحكم والسلطة، وعلى الرغم من أن التناول الفقهي للشأن السياسي لم يعرف الكثرة والشيوع اللذين عرفتهما مباحث أخرى كالعبادات وأحكام الأسرة، إلا أن الفقهاء الأقدمين لم يعرفوا الجدل الذي نشأ في بدايات القرن العشرين، والتشكيك في كون السياسة من موضوعات الفقه.
لقد حسم ابن خلدون ذلك الجدل قبل حصوله، إذ يقول: “اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا، فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد. والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة وهو معنى السلطان، أو تعويضا منها وهو معنى الوزارة عندهم، وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقا أو مقيدا… لابد للفقيه من النظر في جميع ذلك…”[10]
نعم، لقد كانت السياسة جزءا من الاشتغال الفقهي، إلا أن الاعتناء بها كان يتناسب مع المكانة التي تحتلها ضمن العمران البشري لدى المسلمين، الذي ظل يحتفظ لنفسه بمساحات واسعة من التدبير، في استقلالية عن النظام السياسي، ومحتفظا للأمة بحركيتها الذاتية المستقلة.
ويبدو أن الاجتهاد السياسي المعاصر، في الغالب، لم يلتفت إلى اختلاف مكانة السياسة ضمن البناء العام للحضارتين الإسلامية والغربية، فوجدناه يتنقل بين المفاهيم السياسية الأصيلة والأخرى الدخيلة ويؤلف بينها، دون أن يلحظ ما بينها من تباين وتناقض. لذلك ينبغي البحث عن الخصوصيات المعرفية للمجال السياسي، سواء ضمن المنظومة الفقهية أو بين الفضاءين الأصيل والغربي، مما يساعد على تلافي الاختلالات المنهجية.
حول الخصوصية المعرفية
صحيح أن مباحث السياسة جزء من الفقه عموما، وخاضعة لمنهجه الأصولي إذ “ليس هناك ما يشير إلى أن الفقه السياسي يشكل شذوذا أو استثناء في النظام الفقهي الإسلامي، ويظهر من مراجعة المادة الفقهية المتعلقة بالمسائل السياسية أنها لم تنشأ من فراغ ولم تكن مجرد آراء ومواقف مبتورة من سياقها الاستدلالي وأصولها الضابطة لها، يستوي في ذلك أن تكون هذه الأصول نصوصا من الكتاب أو السنة أو إجماعا أو قياسا أو استنادا إلى محض المصلحة”[11]؛ غير أنه من الناحية التفصيلية يتميز الفقه السياسي بطبيعته المعرفية الخاصة، فهو يرتبط بالشأن العام، فالفقيه لا ينظر فيه إلى سلوك فردي أوما يجزئ الشخص في تدينه، بل إلى أحوال الجماعة المسلمة ضعفا وقوة، وحركيتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية…
كما أن المجال السياسي من أظهر المجالات التي ظهر فيها التأثير الغربي، وسلطته في الإلحاق والهيمنة، مما أفرز واقعا معرفيا مختلطا بين فقه سياسي قديم وآخر أصيل، ومفاهيم سياسية جديدة وأخرى دخيلة، وأفرز على مستوى التطبيق محاولات للرجوع لتجربة الحكم الإسلامي ولكن من خلال المفاهيم الدخيلة، وارتهانا للواقع المفروض وإضفاء الشرعية عليه، وإيجاد أوجه التشابه بينه وبين المعطيات النظرية الأصيلة. ولعل أبرز مثال في هذا الشأن أن الاجتهاد السياسي المعاصر لم يعتن بتحرير مناطق الاشتغال، واستسلم لذلك الخلط المعرفي في مسألة الدولة، مما أنتج “…خطابا يقدم خليطا من الاقتباس الفقهي ممزوجا بالقياس القانوني على المبادئ الدستورية الغربية، من دون أن يغوص في تشكيلاتها البنيوية وعلاقتها بفكرة الجماعة كفكرة مركزية تختلف كلية في موقعها من النسق المفاهيمي الأصولي -قرآنا وسنة- عن مركزية الدولة في المفهوم الهوبزي…”[12]
ولأن الفقه السياسي المعاصر يتأرجح بين الأحكام الفقهية الأصيلة والمعطيات الدخيلة، فإنه لا مفر له من الاشتغال على مستوى المفاهيم وليس المصطلحات، بخلاف باقي أبواب الفقه. فإذا كانت الاصطلاحات هي مفاتيح العلوم، وقد بلغت في الفقه درجة من الضبط الذي يبتغي صياغة حدود جامعة مانعة، فإن مجال السياسة تؤطره مفاهيم تحيل على أنساق معرفية لها سيرورة تاريخية وحمولة أيديولوجية. بمعنى أن البحث السياسي لا يقف عند حدود الفقه بمعناه القانوني الخاص، بل ينبغي أن يتجاوز ذلك إلى المعنى العام للفقه الذي يشمل فقه النفس والوجود. فمفاهيم السيادة والسلطة والحريات العامة والدولة والتعددية والديموقراطية والعدل… لا يمكن حصرها ضمن النظر القانوني الصرف[13].
مشكلة المنهج الاجتهادي
إن الذهول عن طبيعة النظر السياسي وخصوصيته المعرفية، أفضى إلى اختلالات منهجية خطيرة، وقد تجد الباحث واعيا بالصعوبات النظرية للاجتهاد السياسي، ويحاول إحاطته بالضوابط الأصولية والمنهجية، إلا أن حصيلة عمله تجدها غير منضبطة لما أصله نظريا[14]. وسأقف عند بعض تلك الاختلالات اختصارا:
التعامل مع الشأن السياسي بمنطق الفتوى الفردية:
تتعامل الكثير من الاجتهادات مع النوازل السياسية من قبيل الانتماء للأحزاب، المشاركة في الانتخابات، الترشح للمجالس والولايات… على أنها نوازل خاصة تقتضي جوابا فرديا مبنيا على الموازنة بين المصالح والمفاسد الجزئية، والأصل أنه لا فتوى للفرد في هذا المجال، إلا ضمن الرؤية العامة التي يمتلكها الفقيه عن حالة الأمة الإسلامية ومستقبلها، وعن حركيتها العامة في سبيل التحرر والانقياد الأمثل لمقتضيات الشرع. ولا يتأتى ذلك إلا بدراسات وافية متعددة التخصصات، تجمع بين التشخيص والتقويم والتأسيس لمشروع سياسي يستوعب هموم الأمة. ولا يسمى ذلك فتوى سياسية إلا بالنظر إلى النتائج العملية النهاية، وهي جزء صغير مما هو مطلوب.[15]
التشويش المفاهيمي والاصطلاحي:
لم يعتن البحث السياسي الإسلامي بضبط المفاهيم، بل تساهل في ذلك من خلال التعامل مع المفاهيم على أنها مصطلحات، ثم طبق عليها بعد ذلك قاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح”، فأصبح الغموض والتشويش سمتان تطغيان على الاجتهاد السياسي، فانتهى به الأمر إلى الدوران في فلك جهاز مفاهيمي غربي، إما من خلال الأسلمة الظاهرية للأبنية النظرية الغربية، وادعاء أنها نوع من التعبيرات عن المقاصد السياسية الإسلامية، أو من خلال التغافل تماما عن الفروق بين المفاهيم الغربية والإسلامية، كما حدث لمفهوم الدولة الذي دخل إلى الأدبيات الإسلامية الحديثة، ومن ثم “قبِل الخطاب الإسلامي بغير وعي –واستبطن- تصورات تهيمن على سلطة الليبرالية ومرجعيتها، فصاغ رؤيته بتبني تصنيفاتها وأسلمة أبنيتها، والمفارقة أن الحركات الراديكالية قاتلت من أجل هذا التصور، وهي تظن أنها تستعيد نموذج دولة المدينة الأولى، من دون أن يتساءل أحد عن إمكانية أن تتحقق المثل عمرانا ومؤسسات وعلاقات في واقع معاد هيكليا له، وبأدوات مؤسسية أبرزها (جهاز) الدولة القطرية منطقها الحاكم مغاير إن لم نقل معاديا لفلسفة الاجتماع الإسلامي”[16]. وهكذا أصبحت الديمقراطية مرادفة للشورى، والتعددية الحزبية منافسة شريفة وتعاونا على البر، ومبدأ الأغلبية نوعا من الإجماع.
“إن الفكر الإسلامي الذي وجد نفسه محاصرا بترسانة كاملة من المفاهيم والمصطلحات التي تستلزمها عملية البناء ووجود دولة حديثة، جعلته يتغافل عن تناول مسألة الدولة في علاقاتها المختلفة، وعدم فصلها عن ظروفها وملابسات تشكلها وتبلورها”[17].
الخلط بين مقامات الاشتغال السياسي
يبدو أن البعد البراغماتي والرغبة الملحة لدى بعض الحركات الإسلامية في المشاركة السياسية العملية، قد أحدثت نوعا من الخلط بين مقام التنظير السياسي ومقام التكييف أو التنزيل، فأصبحت المرونة والترخص والاستجابة للضرورات -التي محلها التكييف- تسري على الاجتهاد النظري أيضا. فدخل نوع من “مراعاة الخلاف” إلى الاجتهاد السياسي، ليس في النتائج والإلزامات التي تخضع لها القوى الإسلامية، ولكن في المقدمات النظرية، وتم إخضاع العقل قسرا لسلطة الواقع. وقد عبر عن هذا الاستسلام النظري للمفاهيم الغربية غراهام فوللر، صاحب كتاب ” الإسلام السياسي ومستقبله” قائلا: “المفارقة الساخرة بالنسبة للإسلام السياسي في القرن الحدي والعشرين… لا بقاء ولا قوة للإسلاميين إلا بالفكر السياسي الغربي”[18]، واعتبر جهد الإسلاميين السياسي لا يعدو إقامة الجسور والصلات بين المجالين الغربي والإسلامي، يقول: “وفي الحقيقة يمكن للمرء أن يحاج أن واحدا من المشاريع المهمة للإسلاميين اليوم -قصدا أو من غير قصد- هو صياغة مصالحة بين الفلسفة الإسلامية والممارسة الإسلامية التقليدية لفن الحكم من جهة وبين تلك المؤسسات الغربية والممارسات الغربية الموجودة من قبل في المشهد السياسي من جهة أخرى”[19].
وقد انتقل “الأخذ بالرخص” في الشأن السياسي من جانبه العملي، إلى الشق النظري، وهكذا قد يستسهل المجتهد السياسي إصدار أحكام قيم إيجابية على الإبداعات السياسية الغربية، بدعوى أنها أفضل ما جاد به العقل السياسي، وأنها تحقق المقاصد الإسلامية في العدل والشورى، أو أنها مجرد وسائل وآليات ليست لها حمولة أيديولوجية. ولا شك أن هذا الترخص النظري، يفتقد إلى معايير الحكم المنضبط، إذ لا يستند إلى تقويم حقيقي للتجارب السياسية الغربية، ولم يعالج مدى إمكانية نقل التجارب وإنباتها في سياق حضاري مختلف، ولم يعتن ببيان الحدود الفاصلة بين الفكرة والوسيلة… ومع ذلك يغلب جانب الثقة في الوافد الغربي، ويستسلم لحصيلته النظرية قبل العملية[20].
اختلال ميزان المصالح والمفاسد
إن صدور أكثر الاجتهادات السياسية المعاصرة عن قوى إسلامية تتبنى الخيار السياسي في التغيير والإصلاح، جعل إعمالها لميزان المصالح والمفاسد مختلا، وذلك لجملة من الاعتبارات منها:
- أنها تنطلق من واقع سياسي فرضه الاستعمار، فاعتبرته أصلا لا يمكن تجاوزه، وأصبحت الكثير من جهودها منصبة على تبرير الواقع وإيجاد المخارج الشرعية له.
- أنها أعملت الموازنة المصلحية ضمن دوائر ضيقة، فأخرجت المصالح والمفاسد من عمومها للأمة الإسلامية، إلى خصوصية الدولة القطرية المفروضة، ثم من الدولة إلى خصوص التنظيم أو الحزب الإسلامي، ومنه إلى المصالح المرتبطة بأفراد معينين. وهكذا يكثر في النظر المصلحي المعاصر الاستدلال بحجج من قبيل مزاحمة الأحزاب العلمانية، وقطع الطريق على الانتهازيين، ووصول الإسلاميين إلى مراكز القرار، واستفادة الدعاة والمصلحين من الحصانة البرلمانية، واختيار الأفاضل لتدبير الشأن العام…[21]
- أنها قصرت نظرها على المصالح الآنية للتطبيقات السياسية، ولم تنظر إلى مآلات التجارب السياسية عند الغرب الذي هو مصدر إلهامها، فلم تنطلق في تقدير المصالح والمفاسد من تقويم واقع التجربة الغربية التي سبقت إلى تلك التطبيقات.
ويرى بعض الباحثين أن الاجتهاد السياسي للحركات الإسلامية يركز على وسائل العمل السياسي، ولا يرى بأسا في أصل الدولة، ولا أي ضرورة لمراجعة مركزيتها[22]، ولا في التعددية الحزبية أو الانتخابات… في حين أن المتخصصين في العلوم السياسية يراجعون المنطلقات، ولهم تقديرات مختلفة للمصالح والمفاسد، من ذلك رؤية رفيق حبيب الذي يدافع عن الأمة في مواجهة خطر الدولة الحديثة، يقول: “والنتيجة النهائية أن قوانين الدولة الحديثة لم تُقَوِّ البنية الاجتماعية للأمة… فأصبحت هذه التعديلات المؤسسية والتشريعية منقطعة الصلة بالبناء الاجتماعي الموروث، مما يترتب عليه حدوث ازدواجية بين البنية الاجتماعية وبنية الدولة، وهذا الوضع يؤدي في تصورنا إلى إضعاف كلا الطرفين، فتكون المحصلة بناء مشوها وغير فاعل للدولة، وتفكيكا للبنية الاجتماعية الموروثة، وتحجيم دورها وتقليل وظائفها، وتقليص فاعليتها، وتلك الحالة المشوهة التي نصل لها بعد سنوات من سيادة فكرة الدولة القومية الحديثة، تؤدي إلى دولة في أفضل الظروف غير قادرة على تحقيق النهضة… مما يعني أن محاولة تحقيق الحداثة بالمعنى الغربي، أدت في النهاية إلى إجهاض احتمالات النهضة، ولم تتحقق الديموقراطية من خلال الدولة والقانون، ولا كانت الأحزاب وسيلة للحركة السياسية الحرة”[23].
ثالثا. تقويم الاجتهاد في المشاركة السياسية
يرتبط موضوع المشاركة السياسية بأغلب المواضيع المعاصرة، التي وجد الفكر السياسي الإسلامي نفسه مضطرا للنظر فيها. إذ لا يمكن تحديد الموقف بشأن المشاركة في نظام سياسي معين، دون النظر قبل ذلك في شكل هذا النظام، وطبيعة الحكم السائد وفي التعددية السياسية، “فيجب التأكيد على أن المشاركة هي جزء لا ينفصل عن مفهومات الديموقراطية الأخرى كالتجمع، والمساواة وسيادة الشعب، ومناقشة القوانين أو تعديلها، كما أن المشاركة السياسية تعد المقياس لنمو الحكومات الديموقراطية، وهناك من يعتبر عملية المشاركة السياسية من الأنشطة الإدارية التي يشارك الأفراد بمقتضاها في اختيار الحاكم، وصياغة السياسة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، أي أنها تعني مشاركة الأفراد في مختلف مستويات النظام السياسي”[24].
غير أنه رغم كثرة الكتابات التي عالجت مشاركة القوى الإسلامية في الحياة السياسية، إلا أن أكثرها ينزع إلى النظر المستقل للموضوع، كما يغلب التأصيل الفقهي التجريدي، الذي يؤسس لأحكام عامة، على الدراسة التفصيلية لواقع سياسي معين.
وارتباطا بما سبق، فإن العديد من الكتابات لم تعتن بتحرير منطقة الدراسة، فلم تتعرض أغلبها لبيان مفهوم المشاركة السياسية، وتعاملت معها في حدود الدلالة اللغوية العرفية، التي تحصر المفهوم في الدخول للبرلمان أو تولي المناصب الوزارية؛ وبذلك فإن الاجتهادات السياسية في هذا الموضوع، لم تستفد من السعة المفاهيمية وتعدد الاتجاهات، التي توفرها العلوم السياسية في مقاربة المشاركة السياسية، وأثر ذلك في الأحكام التي تصدرها تلك الاجتهادات[25].
من بين الأعمال الإسلامية التي اعتنت بتعريف المشاركة السياسية، نجد توصيات دورة “المشاركة السياسية: المشروعية والجدوى” التي تعرف المشاركة السياسية بالقول: “المقصود بالعمل السياسي في هذا المقام هو المشاركة في صنع القرار السياسي من خلال الأحزاب السياسية، والمجالس النيابية، وغيرها من المؤسسات السياسية والدستورية للدولة، مع ما يستتبعه ذلك من التحالفات المؤقتة مع بعض القوى السياسية الأخرى، أو استعمال بعض الآليات الديموقراطية المتاحة كالتظاهر والعصيان المدني وتكوين جماعات الضغط ونحوه”[26].
تتنوع الاجتهادات الإسلامية التي تناولت موضوع المشاركة السياسية بين بحوث مستقلة، أو دراسات مضمنة في كتب، وأطروحات جامعية، وأعمال ندوات أو مؤتمرات، وفتاوى فردية أو صادرة عن هيئات رسمية أو مستقلة. ومن ضمن تلك الاجتهادات الأعمال العلمية الآتية:
- المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة دراسة فقهية مقارنة. مشير عمر خميس الحبل، رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين 1424هـ- 2003.
- المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة. مشير المصري، دار الكلمة للنشر المنصورة، 2006.
- من فقه الدولة في الإسلام. يوسف القرضاوي، دار الشروق مصر، ط1/97.
- المشاركة السياسية للمسلمين في البلاد غير الإسلامية. نور الدين الخادمي، دار وحي القلم، بيروت، ط1/2004.
- مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلم من الناحية التشريعية والفقهية، لنصر فريد واصل – الديمقراطية ومشاركة المسلم في الانتخابات، لعبد الكريم زيدان – مشاركة المسلم في الانتخابات، لوهبة الزحيلي. ضمن أعمال المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، الدورة المنعقدة في مكة من 21-26/10/1422هـ.
- مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية. صلاح سلطان، المركز الأمريكي للأبحاث الإسلامية، ط2/2006.
- المشاركة في البرلمان والوزارة. محمد شاكر الشريف، سلسلة تصدر عن مجلة البيان.
- حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية. للدكتور عمر الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1/99.
- الإسلاميون وسراب الديمقراطية. عبدالغني الرحال، المؤتمن للنشر والتوزيع الرياض 1413هـ.
- المشاركة السياسية في فقه شيخ الاسلام ابن تيمية. سعد الدسن العثماني، منشورات الفرقان 1997، سلسلة الحوار 29، المغرب.
- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، الفتوى رقم: 14676.
- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، الفتوى رقم: 4029.
وتختلف تلك الاجتهادات في حكم المشاركة السياسية بين الإباحة والحضر، وإن كان أغلبها يميل إلى الجواز بل قد تصل بعضها إلى الإفتاء بالوجوب، كما تختلف في الشروط والتقييدات التي تضعها لتكون المشاركة معتبرة ومنضبطة لأحكام الشريعة. وبصرف النظر عن طبيعة الأحكام والتفصيلات الواردة في كل دراسة، سأورد تعليقات إجمالية على منهج الاجتهاد المتبع، سواء في الاجتهادات التي تستند إلى النصوص الشرعية، أو تعتمد الاقتباس المباشر من نصوص قديمة لتسقطها على واقع جديد، أو الاجتهادات المصلحية. وقد لا يصدق التعليق على مجمل تلك الأعمال الاجتهادية، ولكنه سمة غالبة ترددت في دراسات كثيرة.
الاجتهاد المبني على النصوص الشرعية
نظرا لكون الواقع السياسي المعاصر يختلف تمام الاختلاف عن الأوضاع السياسية الماضية التي تشملها النصوص الشرعية، فإنه لا يتأتى القياس المباشر عليها لوجود الفوارق الكثيرة؛ والقراءات السياسية التي حاولت إجراء القياسات وإيجاد أوجه التشابه المباشر في المعطيات التفصيلية، قد وقعت في إسقاطات تاريخية سقيمة، حيث أسقطت المعطيات السياسية المعاصرة بتفاصيلها، على التجارب التاريخية السابقة، لتسوغ عملية القياس والاعتبار. والواقع أنه لا يتأتى الاعتبار إلا من الحقائق العامة الثابتة في كل الأنظمة السياسية، مثل السيادة والسلطة، التمكين أو الشوكة، الحكم وشخص الحاكم، أما المعطيات التفصيلية مثل الانتخاب والترشيح والدستور والبرلمان والحزب… فلا مجال للحديث عنها إلا ضمن سياقاتها ومفاهيمها وفلسفتها المؤطرة لها.
لقد كانت قصة يوسف عليه السلام مستند الكثيرين في إجازة المشاركة السياسية، والحقيقة أنها شديدة الارتباط بالشأن السياسي، وقد كانت مدخلا أساسيا ولجه المفسرون والفقهاء في معالجة الكثير من القضايا الفقهية السياسية؛ إلا أن العيب في الأبحاث المعاصرة أنها حاولت إيجاد تماثل بين مضامين القصة، والمعطيات التفصيلية في الواقع السياسي المعاصر.
نجد الدكتور عمر الأشقر مثلا، قد خلص إلى أن مشاركة يوسف عليه السلام جزئية، ضمن نظام جاهلي، وقد تولى وزارة المالية أو رئاسة الحكومة، وأنه لم يستطع أن يغير فيه شيئا، فلم يغير القوانين الجاهلية، حتى ما يتعلق بوزارة المالية ، والعجب أنه فسر أخذه لأخيه بحيلة، من عجزه عن قوة التنفيذ، ولم يلتفت إلى الفرق بين طلب يوسف أن يكون على خزائن الأرض، وبين الترشح لتولي منصب في نظام ديموقراطي حديث، ولا بين المشاركة الفردية والمشاركة الحزبية المعاصرة… وهي فروق تمنع القياس الجزئي، فلا يبقى إلا الاعتبار بالقضايا العامة الثابتة، وعلى رأسها قضية التمكين، فالأقرب إلى الصواب أن يوسف عليه السلام لم يتول الحكم إلا بعد أن وفر ضمانات التمكين الشخصي: “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ” [يوسف، 50]، “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي” [يوسف، 54]، والتمكين السياسي: “قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ” [يوسف، 54] “وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ” [يوسف، 56] ” رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ” [يوسف، 101].
التمكين السياسي قضية أساسية وثابتة يمكن استفادتها من قصة يوسف عليه السلام والقياس عليها، والغريب أن عمر الأشقر حاول إثبات نقيضها في القصة، فنسب إلى يوسف عليه السلام نوعا من العجز عن تغيير القوانين، مما يبرر للمعاصرين المشاركة ولو لتغييرات جزئية. وليس كذلك، بل جمع يوسف عليه السلام بين العدل الممكن (يحاكم المخالف بقانونه مع تعطيل قانون البلد)، وتحقيق رغبته الذاتية المشروعة (حبه لأخيه والرغبة في إكرامه)، ولو لم يكن ممكنا لما أبطل قانون عقوبة السارق الجاري به العمل.
كما أن مشاركة نبي الله يوسف في الحكم كانت عن علم بالحال والمآل، وهو عظم المفسدة المتمثلة في المجاعة والقحط، مما يقتضي التدخل لحفظ النفوس؛ أما المشاركات الأخرى فمبناها على تقدير المصالح والمفاسد، أي ارتكاب محظور أصلي (موالاة الظلمة)، فلا تجوز إلا باستفراغ الوسع في إدراك المصالح والمفاسد في الواقع المعين، من خلال دراسة مستوفية، وهو ما لم يحصل على كماله، بل ظلت المصالح المتمسك بها هي نفسها تتردد في مختلف المناسبات والبيئات.
ويلاحظ أن التساهل في الاستدلال بالنصوص وإسقاط الوقائع التاريخية على الواقع المعاصر، قد جعل بعض الباحثين يستدلون بنصوص في غير محلها، ولا ينتبهون إلى الفروق الدقيقة؛ فقصة النجاشي أقحمت في موضوع المشاركة، رغم أنها استدلال معكوس، لأن مورد الخلاف هو أن يشارك المسلم في حكم جاهلي ليحقق بعض المصالح، لا أن يذل رقبته لحكم الكافر ويتجرد عن كل سلطته. وقد نقل الدكتور محمد يسري إبراهيم -الأمين العام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح بمصر- نفس استدلالات عمر الأشقر بقصتي يوسف والنجاشي، ولم ينتبه إلى تلك الفروق[27].
من جهة أخرى فإن بعض الكتاب اقتبس نصوصا قديمة، وجعلها حكما فصلا في قضية معاصرة، دون إشارة إلى اختلاف الزمان والمفاهيم والسياقات، يقول العثماني: “وتعتبر قضية تولي الولايات العامة في المجتمعات الإسلامية الحالية قضية كثر حولها الجدل بين الشباب المسلم، واعتبرها البعض غير جائزة شرعا للمفاسد المصاحبة لها، أو لأن الشريعة ليست مرجع القوانين فيها. وقد اخترنا لمعرفة الطريق الوسط والأصوب في المسألة جمع نصوص لشيخ الإسلام ابن تيمية في الموضوع، عسى أن يفيد منها من هم مهتمون بالأمر، خصوصا والحركة الإسلامية بالمغرب مقدمة على مشاركة في الانتخابات البرلمانية، حتى يعلم الشباب المتدين أن تلك المشاركة لا تخالف مبادئ الدين، بل تصبح في أحيان كثيرة واجبة، على ما سنرى من كلام ابن تيمية”[28].
لقد انحصر الاجتهاد السياسي في دراسة النصوص، وتحليل الخطاب والاشتغال اللفظي، ونأى عن معطيات الواقع وإفرازاته، التي هي المحك الحقيقي لكل تنظير، فبعد عشر سنين من إصدار الدكتور عمر الأشقر لكتابه “حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية” -من 1999 إلى 2009- ظهرت مستجدات سياسية محلية ودولية كثيرة، وشاركت بعض القوى الإسلامية في المجال السياسي… غير أن الجهد التنظيري الذي بذله الكاتب اقتصر على التعامل مع المقولات الإنشائية، ولم يتطرق إلى فحص معطيات الواقع، وتقويم التجارب الميدانية، لمعرفة مدى جلبها للمصالح المرجوة، ومكامن إخفاقها… وقد صرح الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية، أنه أعاد النظر في اجتهاده السياسي بناء على ما تجمع لديه من تعقيبات واعتراضات من الموافقين والمخالفين، فلم يجد فيها ما يوجب تغير الحكم الذي توصل إليه[29].
ويذكر عمر سليمان الأشقر أن اجتهاده جاء مواطئا لإحدى الدراسات التي تمخضت عنها بعض الندوات المنعقدة في الكويت من قبل أساتذة كلية الشريعة، وعدد ستة اعتبارات رآها تزيد في القيمة العلمية لنتائج الدراسة، هي: 1. أنها اجتهاد جماعي 2. صدورها عن متخصصين في الشريعة وغيرها أيضا 3. اعتماد الأسلوب العلمي 4. إتاحة الوقت الكافي لإنضاج الآراء 5. عدم خضوع الباحثين لأي سلطة أو إكراه 6. لم تأت الدراسة بدافع الرد على مقال سابق أو واقعة حدثت.
وما من شك في أنالاعتبارات المذكورة كلها مهمة وأساسية، لكنها لا تفي بالغرض من تسييج الاجتهاد السياسي بضمانات تقيه معاطب الشرود والزلل، إذ لكل اعتبار من الاعتبارات الآنفة وجه آخر غير الذي أشار إليه الباحث:
فكونه اجتهادا جماعيا إنما هو بالنظر إلى أن البحوث الفردية قد قرئت ونوقشت وتداول الحاضرون الرأي بشأنها، وذلك لا يخرجه عن كونه اجتهادا فرديا ما دام أصله اشتغالا مفردا يحدد أرضية النقاش ويحصر إطار التداول في بوثقة خاصة، أما الاجتهاد الجماعي فذلك الذي يتأسس لضرورة بحثية تقتضيها سعة المجال المعرفي المشتغل عليه وتشعب معطياته، أو تداخل اختصاصات كثيرة، مما يستدعي تأسيس عمل بحثي متكامل، وفق منهج علمي متفق عليه ابتداءً.
أما كون الباحثين من المتخصصين في الشريعة، فهو شرط أساسي لكنه غير كاف إذا لم يكن لهم اطلاع واسع على المجال السياسي بما يحقق حد الكفاية التي يقع بها استفراغ الوسع.
أما الأسلوب العلمي الذي يقصده الكاتب، فلا أظنه يرقى إلى ما هو متعارف عليه في الأبحاث الاجتماعية الحديثة، التي تعتمد مناهج البحث الميداني، وتتوسل بأدوات معرفة الواقع وتحليل معطياته، كالإحصاء وتحليل البيانات والدراسات الطولية…
أما عن الوقت المستغرق في إنجاز الدراسة، فلا قيمة له في حد ذاته إذ لم تكن تقتضيه طبيعة المنهج والأدوات المعتمدة في البحث، وكم المعطيات المدروسة؛ فمن تنكب السبيل السالك للبحث من بدايته، فلن يصل إلى مبتغاه مهما طال بحثه وسيره.
وأما عن انتفاء سلطة الإكراه والخضوع لتوجيه مسبق، فقد يكون ذلك واضحا فيما يتعلق بأنواع الإكراه المادي الذي تمارسه السلطات الحاكمة وذوو النفوذ، ولكن لا ينفي ذلك إمكانية الوقوع تحت سلطة الإكراه المعنوي الخفية، كالتباس المفاهيم السياسية (كمفهوم الدولة أو المشاركة…) أو عدم القدرة على تجاوز المقولات النظرية الرائجة والتسليم بها (كالديموقراطية وحقوق الإنسان…)
الفتاوى والاجتهاد المصلحي
إن أغلب الفتاوى الصادرة في شأن المشاركة السياسية[30]، عبارة عن مبادئ عامة، تسائل المستفتي أكثر مما تجيبه، وتكلفه مسؤولية معرفة أحوال الواقع واتخاذ ما يراه مناسبا، على قاعدة المحدثين: من أسند لك فقد حمَّلك؛ حيث يبدو أن الفتاوى تربط حكم المشاركة بتوفر المصالح وغلبتها على المفاسد، أو لضرورة دفع المفاسد وتقليلها، ولكنها لا ترصد المصالح والمفاسد المتحققة فعلا، ولا تذكر المآلات المحتملة. إن أكثر الفتاوى تعتمد على المبادئ العامة وليس على مناطات الأحكام وتوصيف الواقع كما هو، رغم أن معرفة الواقع هو أساس الفتوى وأهم ما ينبغي استفراغ الوسع فيه، وهو أمر لم تقم به لا لجان الإفتاء ولا مراكز البحث والدراسة المستقلة أو التابعة للأحزاب والحركات التي انخرطت في العمل السياسي، وبذلك تبقى الفتوى مؤجلة.
وثمة تساهل ملاحظ في نقل الفتوى من محلها، وتعميمها على مختلف الأحوال، كما حصل من صاحب كتاب المشاركات السياسية المعاصرة، حيث يقول: “ولئن أجاز هؤلاء العلماء تلك المشاركات السياسية في بلاد الكفر (يقصد فتوى مؤتمر علماء الشريعة في أمريكا الشمالية 1999، وفتوى المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء قرار 5/16) فلأن يجيزوها في بلاد المسلمين التي تحكمها أنظمة غير إسلامية مشتملة على حق وباطل أولى، حيث المفاسد أقل والمصالح أكثر وأكبر ولابد”[31]، وقد فات الكاتب أن الفتوى متعلقة بمكان وزمان وأحوال خاصة، فلا يتأتى نقلها والقياس عليها بهذا التعميم الفضفاض، فالمشاركة في البلاد غير الإسلامية قد تجوز للضرورة المتمثلة في تأمين الوجود الإسلامي وحفظ أسسه ومقوماته بالغرب، أما في البلدان الإسلامية فالوضع مختلف والمصالح مغايرة، فلا ينبغي استسهال الوسائل والترخص المفضي إلى الاتكالية والجمود، وذلك من أجل إنضاج الحلول الإسلامية الراقية وليس الحلول الترقيعية.
لقد اقتصر نظر المجتهدين السياسيين غالبا على المصالح والمفاسد القريبة والظاهرة المرتبطة بالشؤون الداخلية، بنفس منطق الحكم الإسلامي القديم، أي تولي الولايات والخطط الشرعية لدى حاكم ظالم لتقليل المفاسد، فبقي حبيس النظرة التراثية، ولم يستطع أن يتجاوزها ليبصر معطيات الواقع بكل مؤثراتها وملابساتها المحلية والدولية، ففي ظل العولمة -حيث العامل الخارجي أبعد أثرا وأكثر تحكما في اختيارات الدول- قد تتحول المصالح الآنية إلى نوع من الاستدراج إلى مفاسد عظمى “ذلك أن المكاسب الآنية لا ينبغي أن تشغلنا عن التفكير في المآلات والمآزق التي غالبا ما تنتهي إليها الخيارات السياسية، وانعكاساتها المستقبلية السلبية على مشاريع النهوض”[32].
من الأمور التي لم يعرها مناصرو المشاركة السياسية اهتماما كبيرا، المفاسد التي قد تكون من تخطيط القوى المعادية ولا تظهر إلا بعد أمد بعيد، مثل مفسدة إذكاء منطق الصراع، وتكريس الانقسام المجتمعي والانخراط في صراع أيديولوجي على المكاسب السياسية الرخيصة، مما يفضي إلى تشويه العمل الإسلامي، وقد أشار الكاتب الأمريكي غراهام فوللر إلى هذا الأمر، حيث اعتبر “أن المحك الأساسي لاختبار الإسلاميين هو فخ السلطة، التى إن فشلوا فيها كانت السم الترياق الذي يميتهم ويستأصلهم. وكأنه يحث أمريكا على دفع الإسلاميين إلى اعتلاء كرسي الحكم قبل أن يقوى عودهم وتكون لديهم المقدرة على تسيير دفة الحكم. ويقول “لا شئ يمكن أن يظهر الإسلاميين بأسوأ صورة من تجربة فاشلة في الحكم”[33].
وبالجملة فإن الاجتهاد السياسي في موضوع المشاركة السياسية، قد شابته الكثير من الاختلالات المنهجية، التي جعلته يصل إلى أحكام عامة ومتسرعة قبل أن يستوفي شروط النظر، ودون أن يحيط علما بالواقع الذي يحكم فيه. ولا يقف الخلل عند التسرع في استصدار الأحكام، ولكنه يتجاوز ذلك إلى استدامة الخطإ والركون إلى النتائج الجزئية، وقطع الطريق على البحث الجدي المتكامل والمستقل عن إكراهات الواقع، إلى حد أن يعلن أحد الباحثين أنه “ليس هناك طريق للأمة ولا للأكفاء منها إلا طريق الانتخابات البرلمانية، فعلينا أن نأخذ بالأسباب الميسورة للقيام بالواجب الكبير، ولا يصح أن نترك ما تيسر لنا انتظارا لما لم يتيسر، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور”[34].
خاتمة
لقد كان موضوع المشاركة السياسية أحد الأمثلة على أعطاب الاجتهاد السياسي المعاصر، حاولنا من خلاله أن نقف على مجمل أوجه القصور في المنهج الاجتهادي، وليس بوسعنا الادعاء أنها تسري على كل بحث إسلامي في السياسة، إلا أنها تبقى شائعة وطاغية على معظم الأعمال الاجتهادية في هذا الشأن. ورغم أن الاختلالات الذي ذكرتها تشير ضمنيا إلى مسالك الاجتهاد القويم، إلا أنني أختم ببعض القضايا أرى أن الاجتهاد المعاصر لا مناص له أن يبذل فيها مزيدا من الجهود، ليستد طريقه ويتجاوز العقبات المنهجية:
الجهد النظري: يُنتظر من مجتهدي العصر أن يبذلوا جهدا نظريا جديدا، يتابع مسيرة تحرير النظر الأصولي، ليخرج من الأحكام المعيارية الكيفية، إلى نوع من التكميم الذي يضبط معنى “استفراغ الوسع”، مما يسمح بتقويم الأعمال الاجتهادية المعاصرة والحكم عليها.
الجهد التربوي: وأقصد به إصلاح المنظومة التربوية عموما، والعلوم الشرعية على وجه الخصوص، من أجل ردم الهوة بين العلوم والمعارف، وإحداث التكامل بين التخصصات العلمية، والاستفادة من مختلف المناهج وأدوات البحث الجديدة في الاشتغال الفقهي، خاصة ما يتعلق بمعرفة الواقع واستطلاع المعطيات من الميدان المبحوث.
الجهد المؤسسي: من خلال تقنين الاجتهاد الجماعي، والارتقاء بمؤسسات الفتوى لتصبح مراكز للبحث والدراسة، لا تقف عند مستوى إفادة الجواب، بل تتعدى ذلك إلى التنظير الاستراتيجي في المجال السياسي والاقتصادي وغيرها من المجالات العامة، وتضع خطط العمل ومشاريع النهوض والإصلاح بين أيدي الحكومات والشعوب، في استقلالية عن إكراهات الواقع والتغريب وردود الفعل اللحظية.
وصلى الله على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.
[1]. الآمدي، أبو الحسن، “الإحكام في أصول الأحكام”، 4/162، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.
[2]. النجار، عبد المجيد عمر ، “فقه التدين فهما وتنزيلا”، الزيتونة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2/1995، ص: 88.
[3]. القرافي، شهاب الدين، “أنوار البروق في أنواء الفروق”، 4/11، عالم الكتب، بيروت، دون تاريخ.
[4]. صادقي، مصطفى، “منهاج تدريس الفقه، مقاربة تاريخية تربوية”، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط1/2012، ص: 248.
[5]. اليوسي، أبو علي الحسن، “القانون في أحكام العلم وأحكام العالم والمتعلم”، تحقيق عبد الحميد حماني، مطبعة شالة، الرباط، ط1/98، ص: 385.
[6]. المرعشي، محمد بن أبي بكر، “ترتيب العلوم”، تحقيق محمد بن إسماعيل السيد أحمد، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1/88، ص: 82.
[7]. الغزالي، أبو حامد، “إحياء علوم الدين”، دار الجيل، بيروت، ط1/92، ج1، ص: 51.
[8]. الآمدي، “الإحكام في أصول الأحكام”، مرجع سابق، 4/162.
[9] . المرجع السابق، 4/163.
[10]. ابن خلدون، عبد الرحمن، “المقدمة”، تحقيق عل عبد الواحد وفي، دار النهضة، القاهرة، ج2 ص: 664،665.
[11]. أمزيان، محمد محمد، “في الفقه السياسي، مقاربة تاريخية”، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1/2001، ص: 7.
[12]. هبة رؤوف عزت، “الخيال السياسي للإسلاميين، ما قبل الدولة وما بعدها”، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط2/2015، ص: 77.
[13]. يشار إلى أن بعض الكتابات السياسية يغيب فيها البعد المفاهيمي ومناقشة الأصول الفلسفية، فارتدت إلى نوع من النظر الإجرائي الصرف في “الاستفادة من تنظيمات الدول غير الإسلامية”، مما جعلها تتسم بالسطحية وبعيدة عن ملامسة الإشكالات السياسية. أنظر مثلا: “تجديد الفقه السياسي في المجتمع الإسلامي -التأصيل-“، أحمد بن سعد حمدان الغامدي، دار ابن رجب، السعودية، ط2/2013.
[14]. ينطبق ذلك مثلا على بحث “المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية” لمحمد يسري إبراهيم، إذ أكثر فيه صاحبه من القواعد الأصولية، والاحتياطات النظرية، يقول: “أما المفتي فيعلم أنه يمارس صفة مركبة تبدأ بالتشخيص والتكييف الفقهي للمسألة، وتمر بتلمس الدليل، وعلاقته بالواقع، ومن ثم تصدر الفتيا، ولا يتم إلا بعلم وعمل ودربة وتجربة ومشورة، وليحذر المفتي والمستفتي من الوقوع تحت ضغط الواقع والمجتمع” ص: 44. إلا أن التطبيق لم يظهر فيه أثر ذلك، بل خلص إلى فتاوى مجملة وأيد آراء سابقة، لا تستند إلى تحليل للواقع السياسي أو تقويم للتجارب السابقة.
[15]. يلاحظ في هذا المقام أن الشأن السياسي عند الغرب خاضع لدراسات مستوعبة، تصدرها مراكز بحثية متخصصة، تعتمد على قواعد بيانات واسعة، وكفاءات كثيرة متعددة التخصصات؛ مثل مؤسسة راند RAND الأمريكية (معهد أبحاث الدفاع الوطني)، ينظر مثلا تقريرها سنة 2007 “بناء شبكات إسلامية معتدلة” أو تقرير 2013 بعنوان “التحول الديمقراطي في العالم العربي، توقعات ودروس مستفادة من حول العالم”.
[16]. هبة رؤوف عزت، “الخيال السياسي للإسلاميين”، مرجع سابق، ص: 75.
[17]. سعيد محمد عالة، “حول مسألة السلطة والسياسة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر”، مجلة المنعطف، المغرب، ع11/1995، ص: 55.
[18]. غراهام إي فولر، “الإسلام السياسي ومستقبله”، ترجمة محمد محمود التوبة، مكتبة العبيكان، ط1/2006، ص: 375.
[19]. نفسه، ص: 235.
[20]. يلاحظ أن مثل هذا التقويم الإيجابي للفكر السياسي الغربي من قبل بعض الباحثين المسلمين، لا يحظى به الفقه السياسي الموروث، فهناك نوع من جلد الذات والتقدير المبالغ فيه للآخر، دون أن يستند الأمر إلى منهج واضح في التقويم والحكم، ولعل مؤثرات الظرفية ترخي بظلالها على مجال النظر والفكر. ينظر مثلا بحث “تجديد فقه السياسة الشرعية” لعبد المجيد النجار، عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، 2014، ص: 15.
[21]. تتردد مثل هذه الحجج في الكثير من الكتابات منذ وقت مبكر، منها: “الإخوان المسلمون تحت قبة البرلمان”، “مشروعية الدخول إلى المجالس النيابية”، “حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية”، “المشاركات السياسية المعاصرة”، “المشاركة في الحياة السياسية”، وفي فتاوى العديد من العلماء.
[22]. أنظر نقد نقد هبة عبد الرؤوف لأطروحات كل من كمال السعيد، صلاح هاشم، أبو العلى ماضي، وعصام العريان، الذين لا يناقشون مفهوم الدولة أصلا، وكأن الدولة القطرية الحديثة تتماهى مع الحكم الإسلامي في المدينة المنورة، في حين أن المتخصصين في العلوم السياسية أمثال هشام جعفر، علاء النادي، وحامد عبد الماجد، لهم آراء مخالفة، ولكنهم على هامش الحركات الإسلامية، “الخيال السياسي للإسلاميين” ص: 50 وما بعدها.
[23] . رفيق حبيب، “في فقه الحضارة العربية الإسلامية، الأمة والدولة، بيان تحرير الأمة”، دار الشروق ط1/2011، ص: 11. يلاحظ أن كتابات رفيق حبيب السياسية صادرة عن تخصص وخبرة، ومؤسسة على تحليل وتقويم للواقع العربي والإسلامي، فهي من بين الاجتهادات السياسية الرصينة، برغم كون الباحث قبطيا نصرانيا.
[24]. سامية خضر صالح، “المشاركة السياسية والديموقراطية، اتجاهات نظرية ومنهجية حديثة تساهم في فهم العالم من حولنا”، كتب عربية 2005، ص: 19.
[25]. ينظر مثلا كيف أن الدكتور عمر سليمان الأشقر في التمهيد لكتابه “حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية”، حاول حصر الطرق المؤدية لإقامة الحكم الإسلامي، وحين حكم بأن الصورة المثالية التاريخية ليست لها فرصة التحقق في الواقع المعاصر، إنتهى إلى أنه لم يعد أمام العاملين للإسلام إلا محاولة الوصول عن طريق الممكن من الصور الأخرى، ومن ثم رجح جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي، ص: 19-29. والمشكلة تكمن في التعامل مع الشأن السياسي بمنهج الحصر والإلزام في المقولات المنطقية، في حين أن العلوم السياسية تحيل على اتجاهات عديدة في فهم المشاركة السياسية وتطبيقاتها.
[26]. توصيات الدورة التدريبية الثالثة حول “المشاركة السياسية: المشروعية والجدوى” مارس- أبريل 2006، بمدينة سكرمنتو بولاية كاليفورنيا، مجمعُ فقهاء الشَّريعة بأمريكا، والمراكز الإسلامية بالساحل الغربي للولايات المتحدة.
[27]. أنظر “المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية” دار اليسر، القاهرة ط1/2011، ص:73، 78.
[28]. العثماني، سعد الدين، “المشاركة السياسية في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية”، منشورات الفرقان، سلسلة الحوار 29، ط1/1997، ص: 7،6.
[29] . أنظر مقدمة الطبعة الثانية، ص: 6.
[30]. أنظر على سبيل المثال: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، الفتوى رقم: 14676، والفتوى رقم: 4029، أو فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز، نشرت بمجلة المجتمع الكويتية، الصادرة بتاريخ 23/05/ 1989 م.
[31]. “المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية”، مرجع سابق، ص: 95.
[32]. محمد أمزيان، “مشروع النهوض بين الأمة والدولة”، مجلة المنعطف، المغرب، ع 20 سنة 2002، ص: 108.
[33]. بسطامي محمد خير، ” مستقبل الحركات الإسلامية السياسية، مراجعة لكتاب مستقبل الإسلام السياسي لجراهام فولر”، 01 أبريل 2006 م، موقع شبكة المشكاة الإسلامية http://bit.ly/2JoTstg.
[34]. “المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية”، مرجع سابق، ص: 92.
The post تقويم الاجتهاد السياسي المعاصر، المشاركة السياسية نموذجا appeared first on منار الإسلام.
from منار الإسلام http://bit.ly/2LH3x7J
via IFTTT
No comments:
Post a Comment