إذا كان الدين الإسلامي نظاما متكاملا للحياة، فإن من البديهي أن التربية المستمدة من هذا الدين ينبغي أن تمثل نظاما متكاملا وشاملا لكل الأبعاد التي تستهدف أول ما تستهدف الإنسان بكافة تعقيداته.
وينبثق الأساس الفلسفي للتربية الإسلامية من منطلق العقيدة التي استمدت منها هذه التربية نفسها منهجها، والذي تُحكّمه في التقعيد للمبادئ التربوية وسائر النظم التعليمية، دون أن تغفل عن ثنائية الكون والإنسان، ومنظومة القيم التي تضبط التصور للثنائية، في تناسق تام مع المقاصد الشرعية، يدفع بالحياة إلى التطور والرقي، ويدفع بالطاقات البشرية إلى الانطلاق والارتفاع، وسيعرض البحث معالم الفكر التربوي الإسلامي دون إطالة مملة ولا إيجاز مخل على النحو التالي:
أولا :العقيدة
العقيدة أساس الدين ورأسه، باستقامتها يفوز الفرد ويفلح، وينمو المجتمع ويزكو، فالعقيدة من أشرف العلوم على الإطلاق، إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه، ولا محال أن شرف موضوعها يزيد على شرف كل العلوم، وهي حجر الأساس في التربية الإسلامية والحياة ككل، إذ التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة، فالعقائد أصول تبنى عليها جميع الأعمال، فإنها إن صحت صح العمل، وإن فسدت أو زاغت انحرف العمل، وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة متعلقة بصلاح عمله، وصلاح عمله أولا وأخيرا إنما هو متعلق بسلامة عقيدته.
“فالمنهج الإسلامي في التربية ، يقوم على أساس إرساء التصور الاعتقادي وجعله المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني”(1)، وذلك بالسعي الحثيث المتواصل الذي يقوم به الآباء والمربون لإنشاء أبنائهم على الإيمان بالعقيدة التي يؤمنون بها، وغرسها وترسيخها في نفوسهم، وتكوينهم على أساسها من تقديسها والعمل على إظهارها بالمظهر اللائق أمام معتنقيها، وأمام أنظار من يرجى إسلامه من المؤلفة قلوبهم لاعتقادها، والحرص على تمثلها في واقع الحياة، وفي النظرة بها إلى الحياة والكون.
“وقد جاءت السنة النبوية، لتؤكد على أهمية العقيدة في التربية، حيث كانت تربيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، مبنية على أسس عظيمة وأصول كبيرة أولها العقيدة الصحيحة التي حواها القرآن الكريم، بما فيه من الآيات التي تدعو إلى التوحيد”(2)، ويظهر كل هذا جليا في قوة وتماسك المجتمع المسلم الذي شيده وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، بعد أن تربى على أسس العقيدة ومبادئها طيلة ثلاث عشرة سنة، واستمرت بعد ذلك متوازية مع بقية الأحكام، فخرّج نماذج فذة كانت أعمدة راسية حملت الإسلام على عاتقها ونشرته في بقاع الدنيا.
ثم إنه لاسبيل لبلوغ الأهداف المرجوة من التربية إلا باﻋﺘﻤﺎﺩ ﻣﻨﻬﺞ ﺳﻠيم في التفكير والتنظير والتطبيق، ولهذا فإن “المنهج الإسلامي في التربية، يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ويجعل العبادة، وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية، تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير وقد ثبت أن هذا المنهج وحده، هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق لا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة “(3).
ولا سبيل لنهضة حقيقية تعيد المجد والقوة والعزة للأمة، إلا بعقيدة صافية لا خلط فيها، ثم يتلو ذلك تربية تحول هذه العقيدة إلى حقيقة سلوكية قائمة في عالم الواقع، وهذه التربية تحتاج إلى ترسيخ معاني ومبادئ العقيدة الإسلامية وتعميقها، حتى تصبح يقينا قلبيا لا يزلزله الرخاء والسعة، ولا يكدره البلاء والمحنة.
ثانيا :الإنسان
ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة راقية فيها تكريم وتعظيم، انطلاقا من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(4)، وهذا التكريم عام وشامل باعتبار الحقوق التي ضمنها الإسلام لهذا الإنسان، فهي سياسية واقتصادية واجتماعية…، كما أنها عامة لكل الأفراد، إذ تلقي بظلالها على المسلمين وغير المسلمين، دون تمييز بين لون أو عرق أو لغة، وهي كذلك غير قابلة للإلغاء أو التبديل؛ لأنها مرتبطة بتعاليم رب العالمين.
وقد “خلق الله الانسان بطبيعة مزدوجة، يشده جانب المادة منها إلى الأرض وإلى الحياة بمطالبها المادية وغيرها، بينما يسمو به جانب الروح فيها إلى الآفاق والمثل العليا”(5)، “والذي ينبغي التأكيد عليه أن هذه الازدواجية لا تعني التعارض أو الانفصال بين جانب الروح وجانب الجسد في الانسان، بل هي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولذلك فالروح والجسد مكونان أساسيان مترابطان ومتداخلان في شخصية الانسان”(6).
ويكون الاتجاه الذي اختار إنهاك الجسد باسم مجاهدة النفس وإزالة أدرانها للوصول إلى مقام الحقيقة وحصول الكشف والإلهام والتلقي عن الله، مخالفا مطلقا لوسطية الإسلام الذي جاء يوازن بين متطلبات الجسد والروح.
ويتميز المنهج الإسلامي في التربية، من حيث كونه “يخاطب الفطرة البشرية بآيات الله الكونية المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون والتي يعلم سبحانه أن فيها لغة مفهومة وإيحاءات مسموعة ولذا لم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي العقيم، الذي جاء فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة، لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب، لا يصل إلى القلوب ولا يدفع إلى حركة ولا يؤدي إلى بناء حياة “(7).
والمنهج الإسلامي للتربية يهتم بالجسم اهتمامه بالعقل والروح، ويسعى إلى تشكيل الإنسان على نحو يتفق مع روح العصر ومتطلبات الحياة في سائر النواحي، ويشمل هذا التشكيل النواحي الجسدية والاجتماعية والعاطفية والفكرية والأخلاقية، مهتديا بالوحي المنزل من الله – سبحانه وتعالى – في كتابه وبسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولذا فإن “الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، إنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية”(8)، ولما أراد الله سبحانه وتعالى لهذا النوع أن يستخلفه في الأرض، ركّب الله الغريزة في الإنسان كوسيلة تدفعه وتسوقه للتكاثر والتناسل، وذلك وفق منهج إسلامي يعمل “على تنظيم الدوافع وتوجيهها بما يحقق مصلحة الفرد والجماعة، من خلال توجيه الإنسان إلى إشباعها عن طريق الحلال المسموح به شرعا كاللجوء إلى الزواج لإشباع الدافع الجنسي بدلا من اقتراف الزنا، كما يؤكد الإسلام على تنظيم إشباع الدوافع بأسلوب معتدل بعيدا عن الإسراف”(9).
و”يدرك المنهج الإسلامي ضعف المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة وتدفعه نزواته وشهواته ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع، فالإسلام يدرك ضعفه فلا يقسو عليه ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله، فهو يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة وبجانب الثقلة رفرفة وأشواق ربانية، فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ويأخذ بيده إلى الصعود ويربت عليه في لحظة العثرة”(10).
لقد اهتم الإسلام بموضوع تربية الانسان وبنائه، فجاء بمنهج فريد يروم بناء جماهير مؤمنة بربها واثقة بدينها، تبني هذه الدنيا بما يوافق منهج الله تعالى، وتحمل أمانة الاستخلاف.
ثالثا :الكون
إن هذا الكون الواسع البديع هو من صنع الله تبارك وتعالى ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾(11) ، وكل ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، بل وما تحت الأرض هو ملك لله وحده، قال سبحانه: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾(12).
كما أن ما بين السموات العالية وهذه الأرض المنبسطة، من مجرات، وأفلاك ونجوم وكواكب سيارة، وما يقطن هذه الكواكب من كائنات ومخلوقات، جميعها تسبح لله تبارك وتعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(13).
“وللإسلام تصور واضح عرضه القرآن الكريم في العديد من الآيات التي تدور حول الكون ومظاهره، وتعطي في جملتها صورة رائعة لهذا الكون الذي جعله الله مسرحا للإنسان، ومجالا لنشاطه وتفكيره”(14)، وذلك “من أجمل ما جاء به الإسلام في علاقة الإنسان بالطبيعة وبالكون عامة من حوله: إنشاء عاطفة الودّ والحب لما حول الإنسان من كائنات جامدة أو حية” (15).
وطريق الإنسان إلى معرفة هذا الكون بعوالمه، وفهمه للحكمة من وجوده، هو العلم الذي أمر الله به “وهو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء…ويشمل الكون هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة”(61)، إذ القرآن الكريم يعرض مشاهد عديدة من الكون، ملفتة للنظر تغري الإنسان المتدبر بأن يبحث عن تفسير لها وتشعره بأن هناك دلالة ونتيجة تكمن وراء هذه المظاهر ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(17).
ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل لهذا الكون سننا وأسبابا حتى لا تكون الشريعة ضربا من الخيال والتجريد، فمن أخذ بها نال، ومن تركها لم ينل، ويشترك في هذا المسلم والكافر كما هو مشاهد ومعلوم، ولذلك ربط الوصول إلى الحقائق الكونية والطاقات المودعة فيه بالجهد البشري فكل من بذل الجهد، واستفرغ الوسع، وصبر على مشاق البحث، واسترشد بالعقل وأفاد من تجارب الآخرين وصل إلى مبتغاه، ولن يحول معتقده دون الوصول إلى النتائج، يقول عز من قائل: ﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾(18).
والإسلام يدعو إلى تعلم سائر العلوم النافعة، فالعلم أعم وأشمل من العلم الذي يراد للفرائض والشعائر التعبدية، “لأنه عبادة أعم من عبادة الصلاة والصيام، إذ كان خير عبادة لله أن يهتدي الإنسان إلى سر الله في خلقه وأن يعرف حقائق الوجود في نفسه ومن حوله…” (19).
وقد جاء ذكر الكون في مصادر الإسلام الحنيف معبرا عن غايات تربوية حرص الإسلام على معرفتها ومنها (20) :
- بيان الهدف من الحياة وهو إخلاص العبودية لله.
- تعريف الإنسان بخالقه سبحانه.
- بيان حكمة الله في الخلق وسننه في الجود.
- الإيمان بعالم بالغيب.
- قيام الكون على الحق وانتفاء صفة العبثية والصدفة في خلقه ووجوده.
- الدعوة إلى التأمل والبحث والنظر في ملكوت السماوات والأرض. وهكذا يلفت الإسلام نظر الإنسان إلى الكون ويوجهه إلى البحث في آفاقه ويأمره بتدبر سننه وآياته، لكي يتجه هذا الإنسان بعقله وجوارحه وسلوكه وكل معطيات حياته إلى عبادة ربه وطاعته وإلى العمل المثمر في إعمار الكون وتحقيق شريعة الله وعدالته في الحياة والمجتمع.
إن هذا الكون مجال للتدبر والتفكر، يستدل من خلال نظامه اللبيب الفطن على عظيم قدرة الله جل وعلا وجلال حكمته ووحدانيته في الخلق والأمر من جهة، ويتعرف على سنن الله تعالى في هذا الكون لتسخيرها لمصالحه والاستفادة من الطاقات والقدرات المودعة فيه من جهة أخرى.
وأخيرا، فالكون مستقر للإنسان ومتاع له، حتى وقت محدد، قال سبحانه: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾(21).
رابعا :القيم
“تواجه المجتمعات البشرية على المستويين – الإقليمي والعالمي – خطرا أكبر من الأسلحة الذرية والنووية، إنه خطر الزلازل الجارية في ميادين القيم، وسوف يشهد القرن القادم اختفاء ثقافات وذوبان مجتمعات من خلال عمليات الانصهار والتحليل والتركيب الجارية في ميدان القيم”(22).
فلا شك أن أزمة أمتنا اليوم في الحقيقة هي ليست أزمة وسائل مادية وإمكانيات بشرية، ذلك أن النصر في ديننا لا يرتبط بالعدة والعتاد، وإنما هي أزمة قيم بامتياز، تنظيرا وتثقيفا وبسطا.
فالواقع الجاهلي الذي تعيشه البشرية اليوم، والناتج عن تصور فلسفي يقود العالم بتحالف مع دكاكين إعلامية بيد تجار ومقاولين همهم مصالحهم الدكاكينية والإسترزاق، يظهر فيه التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي وتتآكل في ظله إنسانية الإنسان وتتحلل آدميته، وهو يلهث وراء إشباع اللذائذ الجسدية بغير أن ينضبط بضابط ومن دون أن يتقيد بشرع، كالحيوان ليلحق بعالمه الهابط. ولا محال أن هذا الواقع يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط، أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي المحبوك وفق الصنعة.
وفي ظل هذا العصر المعولم، أمتنا الإسلامية تمر بفترة حرجة؛ لما تعرفه من اهتزاز في القيم، واضطراب في السلوكيات والمعايير الأخلاقية، و”اللافت في الأمر أن الأوضاع القائمة في الوقت الراهن تسير في طريق إبعاد الفرد والمجتمع عن القيم والدين أكثر فأكثر، ابتداء من الانبهار بالتطور التكنولوجي، وما نتج عنه من مظاهر التبعية؛ كالتفسخ الأخلاقي، وانتشارِ العنف، وعدم الشعور بالمسؤولية، وما صاحب ذلك من الأمراض الاجتماعية الخطيرة في تدني مستوى القيم، وتغيرت نظرة مجتمعنا إلى الحياة، ويظهر ذلك في ما يعانيه أفراد أمتنا من اغتراب نفسي وخلل قيمي مخيف، وعدم القدرة على التدافع مع ما يحصل لها؛ وذلك لعدم توفر رصيد قيمي وسلوكي يضبط حياة الفرد والمجتمع، كما لا ننسى الميل المتنامي لدى كثير من الأفراد نحو اللامبالاة لما يقترفه بعض الأفراد والجماعات في المجتمع من سلوكيات تتنافى وقيم المجتمع الإسلامي، إضافة إلى ظهور بعض التيارات والدعوات التي تنادي صراحة أو ضمنيا بالخروج على هذه القيم، مع تسلل القدوة السيئة التي لا تتفق مع قيمنا إلى معظم البيوت من خلال أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة؛ بحيث أصبحت هذه القدوة – مع مرور الوقت – شيئا مألوفا، هذا مع انشغال الناس في هذه الأيام أكثر فأكثر بهموم لقمة العيش التي أصبح تحصيلها يستنزف معظم وقت وجهد رب الأسرة”(23).
ثم إن التربية في حقيقتها عبارة عن “نسق من القيم، يسهم في تشكيل شخصية الفرد وضميره والوازع الداخلي الذي يضبط سلوكه”(24)، ومن ثم “يؤكد العديد من الباحثين، أن مشكلة تبلور الشخصية، ترتبط إلى حد بعيد بثقافة كل شعب والقيم التي يحملها ومفهومه عن المحرمات ونظرته إلى ما هو رفيع وإلى ما هو دنيء، وهذه المجموعة من المواقف، تشكل قيم كل شعب ولها احترام وقدسية عنده”(25).
فالقيم بهذا المعنى منظومة متكاملة من المثل العليا والقناعات المشتركة المستندة إلى رؤية كونية لتفسير الوجود والإنسان، تتشكل لدى مجموعة بشرية معينة، بإرادة حرة واعية، إذ “تلعب القيم دورا كبيرا، في توجيه سلوك الفرد واتجاهاته فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك، في ضوء ما تتضمنه القيم من قواعد ومعايير” (26).
والتربية على القيم عملية مستمرة ودائمة، بحيث ينبغي العمل على تكوين الفرد وتنمية وعيه بنظام حقوقه وواجباته، وتطوير مستوى مشاركته في دينامية المجتمع الذي ينتمي إليه ومنه اكتسب القيم التي ينبغي أن يورثها هو أيضا لجيل من بعده، ذلك أن أساليب غرس القيم لدى المتعلمين وشباب المستقبل تكمن في عملية التنشئة الاجتماعية التي تبدأ مع الأسرة المسؤولة من موقعها عن تربية الفرد المسلم ورعاية مصالحه، فهي “المؤسسة الفريدة في تربيتها وتنشئتها للأجيال الطالعة ولا يمكن لمؤسسة أخرى أن تباشر مهامها في عملية التنشئة الاجتماعية بنفس المقدرة والكفاءة، فالأسرة تتوسط بين الفرد والمجتمع، فمن ناحية تنقل ثقافة المجتمع إلى الأفراد ومن ناحية أخرى، تزود أفرادها بالأدوار التي تمكنهم من التفاعل والتعامل مع المؤسسة الاجتماعية”(27).
“بالإضافة إلى الدور البالغ للمدرسة في تنمية القيم؛ لكونها تجسد أهم المحاضن أو الوسائط التي يمكن من خلالها تنمية القيم وغرسها في نفوس المتعلمين، وفي التأكيد على مبدأ القدوة الصالحة، والحرص على جعل عملية تعليم القيم والتربية عليها عملية فعالة ومحدثة للأثر المطلوب منها”(28).
وعلى المسلمين أن “يستمدوا قيمهم وموازينهم في حياتهم الدنيا من المصدر الرباني، حتى لا تكون مقيّدة بملابسات أرضهم ولا بمواصفات حياتهم ولا نابعة من تصوراتهم المقيّدة بهذه المواصفات”(29).
وعليهم أيضا أن يراعوا عند غرس القيم وتعليمها مسألة ترسيخ المعتقدات الإسلامية، معتمدين على ثنائية النقل والعقل في الإقناع، الذي يقوم على توضيح الدليل والبرهان والتعليل على تأسيس القيم، وفق منهج التفكير الصحيح القائم على الاستدلال والمقارنة والنظر في الإيجابيات والسلبيات، وتحمل العواقب والنتائج…،إلخ.
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ج3، ط9، 1400ه/1980م، ص 1468.
(2) المالكي محمد علوي، أصول التربية الإسلامية، مجلة منار الإسلام، أبو ظبي، العدد (2)، 1995م ، ص 114.
(3) سيد قطب، في ظلال القرآن، (مرجع سابق)، ج6، ط9، ص 3946.
(4) الإسراء: 70.
(5) يوسف القرضاوي، الايمان والحياة ، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1398ه/1978م. ص70.
(6) علي خليل مصطفى أبو العينين، فلسفة التربية الاسلامية في القرآن الكريم، مكتبة إبراهيم حلبي، المدينة المنورة، ط3، 1408ه/1988م.
(7) قطب، في ظلال القرآن، (مرجع سابق)، ج4، ص 1766.
(8) نفس المرجع، ص 2489.
(9) نجاتي محمد عثمان، الحديث النبوي وعلم النفس، دار الشروق، القاهرة، ط4، 2000م، ص 284.
(10) قطب، في ظلال القرآن، (مرجع سابق)، ج4، ص 476، 477.
(11) مريم: 93-95.
(12) طه: 6.
(13) الإسراء: 44.
(14)عبد الحكيم القاسم، الآديولوجيا والتربية بين المسيحية والإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984م، ص13.
(15) يوسف القرضاوي، رعاية البيئة في شريعة الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2001م، ص 29.
(16) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1969م، ص74.
(17) البقرة: 164.
(18) الإسراء: 20.
(19) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، (مرجع سابق)، ص75.
(20) انظر: علي خليل مصطفى أبو العينين، فلسفة التربية في الإسلامية في القرآن الكريم، مكتبة إبراهيم الحلبي، المدينة المنورة، ط3، 1408ه، ص75-76. عبد الرحمان النحلاوي، أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، دار الفكر، دمشق، ط1، 1399ه/1979م، ص38-42.
(21) البقرة: 36.
(22) الكيلاني ماجد عرسان، فلسفة التربية الإسلامية، مكتبة هادي، مكة المكرمة، 1988م، ص 300
(23) القيم وطرق تعلمها وتعليمها، دراسة مقدمة إلى مؤتمر كلية التربية والفنون تحت عنوان: “القيم والتربية في عالم متغير”، والمنعقد في جامعة اليرموك، إربد، الأردن، 27 – 29/ 7/ 1999م، ص: 2-3.
(24) عبد الغفار، أحلام رجب، دراسة بعنوان ” التطور القيمي لطلاب كلية التربية النوعية “، التربية المعاصرة، القاهرة، عدد 30، 1994م، ص 179.
(25) عرب محمد، الشخصية اليهودية، اتحاد الكتاب العربي، دمشق، ط1، 1983م، ص 7.
(26) خليفة عبد اللطيف محمد، ارتقاء نسق القيم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 160، 1992م ، ص 16.
(27) الشخيبي علي السيد، وآخرون، الأصول الاجتماعية للتربية كلية التربية ، جامعة عين شمس، 1998م، ص 75.
(28) الشيباني عمر محمد التومي، من أسس التربية الإسلامية، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط2، 1990م. ص30.
(29) قطب، في ظلال القرآن، (مرجع سابق)، ج6، ص 3823.
The post معالم الفكر التربوي الاسلامي appeared first on منار الإسلام.
from منار الإسلام http://bit.ly/2H3diaB
via IFTTT
No comments:
Post a Comment